النَّاسِ فِي وُقُوعِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَلَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقَ الْيَهُودُ خَبَرَهُ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي.
وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَا صُلِبَ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَنَجَّاهُ مِنْ طَالِبِيهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي رَفْعِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥] .
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ خِلَافٍ فِي شَأْنِ قَتْلِ الْمَسِيحِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ: فَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: قَتَلَتْهُ الْيَهُودُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَمْ يَقْتُلْهُ الْيَهُودُ، وَلَكِنْ قَتَلُوا يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَسْطُورٌ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابِي- الَّذِي تَعْتَبِرُهُ الْكَنِيسِيَّةُ الْيَوْمَ كِتَابًا مُحَرَّفًا- فَالْمَعْنَى أَنَّ مُعْظَمَ النَّصَارَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِهِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِصَلْبِهِ، بَلْ يُخَالِجُ أَنْفُسَهُمُ الشَّكُّ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالْيَقِينِ، وَمَا هُوَ بِالْيَقِينِ، فَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ قَاطِعٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ. فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا: مَعْنَى الشَّكِّ، وَقَدْ أُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢] ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) .
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْيَقِينُ: الْعِلْمُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَصْدَرُ الْيَقَنُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ: يَقِنَ كَفَرِحَ يَيْقَنُ يَقَنًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُقَالُ: أَيْقَنَ يُوقِنُ إِيقَانًا، وَهُوَ الشَّائِعُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute