للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الِانْسِيَاقَ الضَّرُورِيَّ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْوُجُوبُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَلَا عَقْلِيٍّ نَظَرِيٍّ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهَا فَلَا عَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَعَمُّدِ مُخَالَفَتِهَا.

وَثَانِي الْجَوَابَيْنِ: بِالتَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ مَا وَقَرَ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطْلَاعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَخْبَارِ الْجَدِيدَةِ، وَالْإِصْغَاءِ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ، أَمْرٌ يَحْمِلُ كُلَّ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ إِلَى الدِّينِ عَلَى أَنْ يَسْتَمِعَ لِكَلَامِهِ، وَيَتَلَقَّى دَعْوَتَهُ وَتَحَدِّيَهُ وَمُعْجِزَتَهُ، فَلَا يَشْعُرُ إِلَّا وَقَدْ سَلَكَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى نَفْسِ الْمَدْعُوِّ، فَحَرَّكَتْ فِيهِ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، فَهُوَ يَنْجَذِبُ إِلَى تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حَتَّى يَجِدَ نَفْسَهُ قَدْ وَعَاهَا وَعَلِمَهَا عِلْمًا لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَا أَنْظُرُ الْمُعْجِزَةَ، أَوْ لَا أُصْغِي إِلَى الدَّعْوَةِ. فَإِنْ هُوَ أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَكَانَ مُؤَاخَذًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا مَرَّ بِرَسُولٍ يَدْعُو فَشَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ تَعَرُّفِ أَمْرِهِ وَالْإِصْغَاءِ لِكَلَامِهِ وَالنَّظَرِ فِي أَعْمَالِهِ، لَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا، وَأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ وَأَمْثَالَهُ إِذَا أَفْحَمَ الرَّسُولَ لَا تَتَعَطَّلُ الرِّسَالَةُ، وَلَكِنَّهُ خَسِرَ هَدْيَهُ، وَسَفَّهَ نَفْسَهُ.

وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّ مَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَأَعْرَضَ هَارِبًا حِينَئِذٍ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وُجُوبُ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ هَذَا مَا صَنَعَ صُنْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ لِتَوَجُّهِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ فَعَصَى، وَكَفَى بِهَذَا شُعُورًا مِنْهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ- أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ- لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: ٧] .

وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّسُلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَهُمْ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا حَتَّى تَسِيرَ مِسْرَى الْأَمْثَالِ.

وَمُنَاسَبَةُ التَّذْيِيلِ بِالْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: عَزِيزاً حَكِيماً: أَمَّا بِوَصْفِ الْحَكِيمِ فَظَاهِرَةٌ،