غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: ٣] نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُمَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَة: ١٥، ١٦] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ فِي عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْعَرَبِ وَأَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَبْقَ فِي عِنَادِ الْإِسْلَامِ
إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّ فُتُوحَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ فِي حُدُودِ الشَّامِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا.
وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّسَاعِ نِطَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ النَّصَارَى، وَاخْتِصَارِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ، عَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ أَخَذَ فِي تَرَاجُعٍ وَوَهْنٍ، وَأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مَعَ النَّصَارَى أَصْبَحَ أَشَدَّ مِنْهُ مِنْ ذِي قَبْلُ.
وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتَاتًا، فَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرَى بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْزِلَ سُورَتَانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ، أَيْضًا، مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: لِأَنَّ بَرَاءَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ لَا تَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute