للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَيْضًا فَفِي الْقُرْآنِ تَعْلِيمُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: ٨٣] .

فَلَا شَكَّ أَنَّ أَمر الْإِسْلَام بدىء ضَعِيفًا ثُمَّ أَخَذَ يَظْهَرُ ظُهُورَ سَنَا الْفَجْرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دِينٌ، يُبَيِّنُ لِأَتْبَاعِهِ الْخَيْرَ وَالْحَرَامَ وَالْحَلَالَ، فَمَا هَاجَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمُعْظَمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَ الدِّينُ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرِ شَرِيعَةٍ مُسْتَوْفَاةٍ فِيهَا بَيَانُ عِبَادَةِ الْأُمَّةِ، وَآدَابِهَا، وَقَوَانِينَ تَعَامُلِهَا، ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَجَاءَتِ الْوُفُودُ مُسْلِمِينَ، وَغَلَبَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ، تَمَكَّنَ الدِّينُ وَخَدَمَتْهُ الْقُوَّةُ،

فَأَصْبَحَ مَرْهُوبًا بَأْسُهُ، وَمَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ عَامٍ، فَحَجَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ عَشَرَةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَجْلَى مَظَاهِرِ كَمَالِ الدِّينِ: بِمَعْنَى سُلْطَانِ الدِّينِ وَتَمْكِينِهِ وَحِفْظِهِ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ وَاضِحًا يَوْمَ الْحَجِّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ.

لَمْ يَكُنِ الدِّينُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ غَيْرَ كَافٍ لِأَتْبَاعِهِ: لِأَنَّ الدِّينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، مِنْ وَقْتِ الْبَعْثَةِ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آخِذًا بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْإِسْلَامِ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ إِكْمَالٌ لَهُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ، وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَامِلٌ فِيمَا يُرَادُ مِنْ أَتْبَاعِهِ الْحَاضِرِينَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ إِكْمَالُ بَقِيَّةِ مَا كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، إِذِ الْإِسْلَامُ قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِمَا يَشْمَلُ الْحَجَّ، إِذْ قَدْ مَكَّنَهُمْ يَوْمَئِذٍ