فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُرِيدَ مِنْهَا تَأْكِيدُ شَرْعِ الْوُضُوءِ وَشَرْعِ التَّيَمُّمِ خَلَفًا عَنِ الْوُضُوءِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْ نُزُولُ قُرْآنٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا بِالسُّنَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً إِلَّا بِوُضُوءٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» «لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرَ مَتْلُوٍّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً، مَعْنَاهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ. فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا فَرْضًا» وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهَمَزَ بِعَقِبِهِ فَانْبَعَثَ مَاءٌ وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ فَصَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ اه.
وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» ثُمَّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ فَجَاءَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضَّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ اه. وَقَوْلُهُمْ: الْوُضُوءُ سُنَّةٌ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَقُولُوا: آيَةُ الْوُضُوءِ لِمَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ قَبْلَ الْآيَةِ.
فَالْوُضُوءُ مَشْرُوعٌ مَعَ الصَّلَاةِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا شَرْعَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا شَرْعَ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ قَرَّرَتْ حُكْمَ الْوُضُوءِ لِيَكُونَ ثُبُوتُهُ بِالْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ، كَمَا شُرِعَ الْوُضُوءُ بَلْ هُوَ أَسْبَقُ مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْرُوفَةً حَتَّى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلِذَلِكَ أُجْمِلَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ هُنَا وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا فَاطَّهَّرُوا، وَقَوله هُنَالك تَغْتَسِلُوا [النِّسَاء: ٤٣] ، فَتَمَحَّضَتِ الْآيَةُ لِشَرْعِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الْوُضُوءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute