للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ تَرَكَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ بَيَانَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَابَعَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَجِدُ مَنْ تَصَدَّى لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا سِوَى الشَّيْخِ ابْنِ عَرَفَةَ التُّونِسِيِّ، فَقَالَ فِي «تَفْسِيرِهِ» «الْعَدَاوَةُ أَعَمُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ سَبَبٌ فِي الْبَغْضَاءِ فَقَدْ يَتَعَادَى الْأَخُ مَعَ أَخِيهِ وَلَا يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَنْشَأَ عَنْهُ الْمُبَاغَضَةُ، وَقَدْ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ» اه.

وَوَقَعَ لِأَبِي الْبَقَاءِ الْكَفَوِيِّ فِي كِتَابِ «الْكُلِّيَّاتِ» أَنَّهُ قَالَ: «الْعَدَاوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لِأَنَّ كُلَّ عَدُوٍّ مُبْغِضٌ، وَقَدْ يُبْغِضُ مَنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ» . وَهُوَ يُخَالِفُ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ. وَفِي تَعْلِيلِيهِمَا مُصَادَرَةٌ وَاضِحَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ أَعَمَّ مِنَ الْبَغْضَاءِ زَادَتْ فَائِدَةُ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الْبَغْضَاءِ لَمْ يَكُنِ الْعَطْفُ إِلَّا لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ من معنى المؤكّد، فَيَتَقَرَّرُ

الْمَعْنَى وَلَوْ بِوَجْهٍ أَعَمَّ أَوْ أَخَصَّ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ.

وَعِنْدِي: أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالَّذِي أَرَى أَنَّ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ التَّضَادَّ وَالتَّبَايُنَ فَالْعَدَاوَةُ كَرَاهِيَةٌ تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِهَا: مُعَامَلَةٌ بِجَفَاءٍ، أَوْ قَطِيعَةٌ، أَوْ إِضْرَارٌ، لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَدْوِ وَهُوَ التَّجَاوُزُ وَالتَّبَاعُدُ، فَإِنَّ مُشْتَقَّاتِ مَادَّةِ (ع د و) كُلَّهَا تَحُومُ حَوْلَ التَّفَرُّقِ وَعَدَمِ الْوِئَامِ. وَأَمَّا الْبَغْضَاءُ فَهِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَلَيْسَ فِي مَادَّةِ (ب غ ض) إِلَّا مَعْنَى جِنْسِ الْكَرَاهِيَةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اشْتِقَاقِ لَفْظِهَا مِنْ مَادَّتِهَا. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ مَقْلُوبَ بَغِضَ يَكُونُ غَضِبَ لَا غَيْرُ، فَالْبَغْضَاءُ شِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ غَيْرُ مَصْحُوبَةٍ بِعَدْوٍ، فَهِيَ مُضْمَرَةٌ فِي النَّفْسِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ مَعْنَيَيِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يكون إلقاؤهما بَينهمَا عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ، أَيْ أَغْرَيْنَا الْعَدَاوَةَ بَيْنَ بَعْضٍ مِنْهُمْ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ بَعْضٍ آخَرَ. فَوَقَعَ فِي هَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ اجْتِمَاعِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ.