مُلَازِمَهُ فِي شؤونه، وَسَمَّاهُ اللَّهُ فَتَاهُ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الْكَهْف: ٦٠] الْآيَةَ. وَعَطَفَهُ هُنَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحَرِّضًا لِلْقَوْمِ عَلَى دُخُولِ الْقَرْيَةِ.
وَمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أَنْ لَا تُؤَاخِذَنَا بِجُرْمِهِمْ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا فَيُهْلِكَ الْجَمِيعَ فَطَلَبَ النَّجَاةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَرِيءَ بِذَنْبِ الْمُجْرِمِ، وَلِأَنَّ بَرَاءَةَ مُوسَى وَأَخِيهِ مِنَ الرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ قَوْمُهُمْ أَمْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَإِيقَافُ الضَّالِّينَ على غلطهم.
وَقَوله اللَّهِ تَعَالَى لَهُ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُوسَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، وَهُوَ جَوَابٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ مُوسَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ مُوسَى بِالْعِقَابِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَهُ، فَسَكَّنَ هَاجِسَ خَوْفِهِ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَحَصَلَ الْعِقَابُ لَهُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ انْتِصَارًا لِمُوسَى. فَإِنْ
قُلْتَ: هَذَا الْعِقَابُ قَدْ نَالَ مُوسَى مِنْهُ مَا نَالَ قَوْمَهُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ.
قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ هَيِّنًا عَلَى مُوسَى لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَعَهُمْ لِإِرْشَادِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَهُوَ خِصِّيصَةُ رِسَالَتِهِ، فَالتَّعَبُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهُ رَفْعَ دَرَجَةٍ، أَمَّا هُمْ فَكَانُوا فِي مَشَقَّةٍ.
يَتِيهُونَ يَضِلُّونَ، وَمَصْدَرُهُ التَّيْهُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَالتِّيهُ- بِكَسْرِ التَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ-. وَسُمِّيَتِ الْمَفَازَةُ تَيْهَاءَ وَسُمِّيَتْ تِيهًا. وَقَدْ بَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُقِيمِينَ فِي جِهَاتٍ ضَيِّقَةٍ وَيَسِيرُونَ الْهُوَيْنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مُنْتَظِمٍ حَتَّى بَلَغُوا جَبَلَ (نِيبُو) عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ نَهْرِ (الْأُرْدُنِّ) ، فَهُنَالِكَ تُوُفِّيَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُنَالِكَ دُفِنَ. وَلَا يُعْرَفُ مَوْضِعُ قَبْرِهِ كَمَا فِي نَصِّ كِتَابِ الْيَهُودِ. وَمَا دَخَلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حَتَّى عَبَرُوا الْأُرْدُنَّ بِقِيَادَةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ خَلِيفَةِ مُوسَى. وَقَدِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَكَالِبَ بْنَ يَفْنَةَ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا: لَنْ نَدْخُلَهَا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّوَّادِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِاخْتِبَارِ الْأَرْضِ فَوَافَقُوا قَوْمَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute