نَحْوَ:
«يَا بن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ» ، أَوْ مَجْمُوعًا نَحْوَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣١] .
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقًا بِ اتْلُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَالصِّدْقُ هُوَ الثَّابِتُ، وَالْكَذِبُ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ، كَمَا قَالَ:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْف: ١٣] . وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ضِدَّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ غَيْرُ الْهَزْلِ، أَيِ اتْلُ هَذَا النَّبَأَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّفَكُّهِ وَاللَّهْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِالْحَقِّ مُشِيرًا إِلَى مَا خفّ بِالْقِصَّةِ مِنْ زِيَادَاتٍ زَادَهَا أَهْلُ الْقَصَصِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَسْبَابِ قَتْلِ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ أَخَاهُ.
وإِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِ نَبَأَ، أَيْ خَبَرِهِمَا الْحَاصِلِ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا قُرْبَانًا، فَيَنْتَصِبُ (إِذْ) عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ.
وَفِعْلُ قَرَّبا هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُرْبَانِ الَّذِي صَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، يُسَمَّى بِهِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ صَلَاةٍ، فاشتقّ من الْقُرْآن قَرَّبَ، كَمَا اشْتُقَّ مِنَ النُّسُكِ نَسَكَ، وَمِنَ الْأُضْحِيَّةِ ضَحَّى، وَمِنَ الْعَقِيقَةِ عَقَّ. وَلَيْسَ قَرَّبا هُنَا بِمَعْنَى أَدْنَيَا إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ هُنَا.
وَفِي التَّوْرَاةِ هُمَا (قَايِينُ) - وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَهُ قَابِيلَ- وَأَخُوهُ (هَابِيلُ) . وَكَانَ قَابِيلُ فَلَّاحًا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، فَقَرَّبَ قَابِيلُ مِنْ ثِمَارِ حَرْثِهِ قُرْبَانًا وَقَرَّبَ هَابِيلُ مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ قُرْبَانًا. وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ الْقُرْبَانُ عِنْدَهُمْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ كَانَ يُتْرَكُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَتَقَبَّلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُولَ قُرْبَانِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حَصَلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه لِآدَمَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَبَّلِ اللَّهُ قُرْبَانَ قَابِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا صَالِحًا بَلْ كَانَتْ لَهُ خَطَايَا. وَقِيلَ: كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ يُقَرِّبُ قُرْبَانًا.
وَأُفْرِدَ الْقُرْبَانُ فِي الْآيَةِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا قَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute