للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ بِهِ شَرْعٌ. وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَيُّلِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ جَمَعُوا فِي فِعْلِهِمْ جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَمَاذَا يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا النَّفْسَ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَوَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَّاكِ. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كَانَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

فَالْحَصْرُ بِ إِنَّما فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ إِلَخْ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِإِبْطَالٍ- أَيْ لِنَسْخِ- الْعِقَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعُرَنِيِّينَ، وَعَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْحَصْرُ أَنْ لَا جَزَاءَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ

الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْحَصْرُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ هَذَا الْجَزَاءَ وَيَمِيلُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ نَازِلَةٍ عَلَى سَبَبٍ أَصْلًا.

وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ. وَالتَّأْكِيدُ يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ فِي أَمَارَات وجوب الفل الْمَعْدُودِ بَعْضُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحُكْمَ جَازِمًا.

وَمَعْنَى يُحارِبُونَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُقَاتِلِينَ بِالسِّلَاحِ عُدْوَانًا لِقَصْدِ الْمَغْنَمِ كشأن الْمُحَارب المبادي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْبِ الْقِتَالُ. وَمَعْنَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ مُحَارَبَةُ شَرْعِهِ وَقَصْدُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَارِبُهُ أَحَدٌ فَذِكْرُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ لِتَشْنِيعِ أَمْرِهَا بِأَنَّهَا مُحَارَبَةٌ لِمَنْ يَغْضَبُ اللَّهُ لِمُحَارَبَتِهِ، وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِمُحَارَبَةِ الرَّسُولِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُكْمِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّ الْعُرَنِيِّينَ اعْتَدَوْا عَلَى نَعَمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّخَذَةِ لِتَجْهِيزِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ فَمَا عَاقَبَ بِهِ