وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ أَصْلَ (أَوْ) الدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فِي الْوُقُوعِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ التَّخْيِيرَ، نَحْوَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الْبَقَرَة: ١٩٦] . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ، فَإِنِ اجْتَرَحَ فِي مُدَّةِ حَرَابَتِهِ جَرِيمَةً ثَابِتَةً تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ قُتِلَ دُونَ تَخْيِيرٍ، وَهُوَ مُدْرَكٌ وَاضِحٌ. ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعُقُوبَةِ بِمَا يُقَارِبُ جُرْمَ الْمُحَارِبِ وَكَثْرَةَ مَقَامِهِ فِي فَسَادِهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (أَوْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَرَاتِبُ لِلْعُقُوبَاتِ بِحَسْبِ مَا اجْتَرَحَهُ الْمُحَارِبُ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا عُزِّرَ، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ نُفِيَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ قُطِعَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيَقْرُبُ خِلَافُهُمْ مِنَ التَّقَارُبِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ هِيَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ وَلَيْسَتْ لِأَجْلِ حُقُوقِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْمُحَارِبِ عُقُوبَةُ الْحِرَابَةِ.
وَقَوْلُهُ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، أَيِ الْجَزَاءُ خِزْيٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمرَان: ١٩٤] . وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ عِقَابَيْنِ: عِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَعِقَابًا فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ فِي الْآيَةِ خُصُوصَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْعُرَنِيِّينَ، كَمَا قِيلَ بِهِ، فَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَيْنِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْمُحَارِبَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْآيَةُ مُعَارِضَةً لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: ١٢] إِلَخْ فَقَالَ:
«فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute