كَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي التَّوْرَاةِ حُكْمُ رَجْمِ الزَّانِي فَيَتَّخِذُوا ذَلِكَ عُذْرًا لِإِظْهَارِ مَا أَبَطَنُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِعِلَّةِ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْتِجَاءَ الْيَهُودِ إِلَى تحكيم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِأَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِرِسَالَتِهِ وَلَا لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ حُكْمَهُ تَرْجِيحًا فِي اخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُ وَلِيَّ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا. وَلَهُمْ فِي قَوَاعِدِ أَعْمَالِهِمْ وَتَقَادِيرِ أَحْبَارِهِمْ أَنْ يُطِيعُوا وُلَاةَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دِينِهِمْ جَعَلُوا الْحُكْمَ لِغَيْرِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ حُكْمَ وَلِيِّ الْأَمْرِ مُطَاعٌ عِنْدَهُمْ. فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ حُكْمًا جَمَعَ بَيْنَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبِ تَحْكِيمِهِمْ وَبَيْنَ إِظْهَارِ خَطَئِهِمْ فِي الْعُدُولِ عَنْ حُكْمِ كِتَابِهِمْ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْطَ
فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ رَأْيِ مَنْ يُثْبِتُ مِنْهُمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولٌ لِلْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْيَهُودُ الْعِيسَوِيَّةُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مُؤَيِّدًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ كَالْإِخْبَارِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا زَنَى بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَى بِالْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيءٍ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ بِمُوَافَقَتِهِ لِشَرْعٍ آخَرَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْ حُكْمِ شَرِيعَتِهِمْ تَوَقُّفًا عِنْدَ التَّعَارُضِ فَمَالُوا إِلَى التَّحْكِيمِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي شَرْعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا استفتوا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ مَعَ أَصْحَابِهِ حتّى جَاءَ الْمدَارِس- وَهُوَ بَيْتُ تَعْلِيمِ الْيَهُودِ- وَحَاجَّهُمْ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ، وَأَجَابَهُ حَبْرَانِ مِنْهُمْ يُدْعَيَانِ بِابْنَيْ صُورِيَّا بِالِاعْتِرَافِ بِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ، فِي التَّوْرَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حكّموا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لِاخْتِبَارِهِ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ حُكْمُ الرَّجْمِ عِنْدَهُمْ مَكْتُومًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا خَاصَّةُ أَحْبَارِهِمْ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute