وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَوْقِعَ التَّخَلُّصِ الْمَقْصُودِ، فَجَاءَتِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً عَلَى أَبْدَعِ وَجْهٍ.
وَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ الْقُرْآنُ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ. وَالْكِتَابُ الثَّانِي جِنْسٌ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْمُهَيْمِنُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَاءَهُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ فِعْلَهُ بِوَزْنِ فَيْعَلَ كَسَيْطَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعْ هَمَنَ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا نَظِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ إِلَّا هَيْنَمَ إِذَا دَعَا أَوْ قَرَأَ، وَبَيْقَرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، وَسَيْطَرَ إِذَا قَهَرَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي وَزْنِ مُفَيْعِلٍ إِلَّا اسْمُ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَزَادُوا مُبَيْطِرٌ اسْمُ طَبِيبِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُسْمَعْ بَيْطَرَ وَلَكِنْ بَطَرَ، وَمُجَيْمِرٌ اسْمُ جَبَلٍ، ذَكَرَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ:
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الْمُجَيْمِرِ غَدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ وَالْغُثَاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
وَفُسِّرَ الْمُهَيْمِنُ بِالْعَالِي وَالرَّقِيبِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُهَيْمِنُ.
وَقِيلَ: الْمُهَيْمِنُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَمِنَ، وَأَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى اسْتَحْفَظَهُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الرَّقَابَةُ، فَأَصْلُهُ مُؤَأْمِنٌ، فَكَأَنَّهُمْ رَامُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ وَبِمَعْنَى آمَنُهُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ صَارَ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ يَاءً وَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى هَاءً، كَمَا قَالُوا فِي أَرَاقَ هَرَاقَ، فَقَالُوا: هَيْمَنَ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَالَتَيِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِبَعْضِ مَا
فِي الشَّرَائِعِ مُقَرِّرٌ لَهُ مِنْ كُلِّ حُكْمٍ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ كُلِّيَّةً لَمْ تَخْتَلِفْ مَصْلَحَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَزْمَانِ، وَهُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ مُصَدِّقٌ، أَيْ مُحَقِّقٌ وَمُقَرِّرٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُبْطِلٌ لِبَعْضِ مَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَنَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا كَانَتْ مَصَالِحُهُ جُزْئِيَّةً مُؤَقَّتَةً مُرَاعًى فِيهَا أَحْوَالُ أَقْوَامٍ خَاصَّةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute