وَسَبَّبَ اهْتِدَاءَ فَرِيقٍ وَضَلَالَ فَرِيقٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّوْفِيقِ أَوِ الْخِذْلَانِ، وَالْمَيْلِ أَوِ الِانْصِرَافِ، وَالْعَزْمِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ. وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لَنَا بِمَا يَظْهَرُ فِي الْحَادِثَاتِ.
وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ دِينُهُمْ وَمُعْتَقَدُهُمْ وَاحِدٌ، هَذَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ. وَأَصْلُ الْأُمَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَوْمُ الْكَثِيرُونَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى نَسَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، أَيْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَكُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، كَمَا خَلَقَ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلزِّيَادَةِ وَلَا لِلتَّطَوُّرِ مِنْ أَنْفُسِهَا.
وَمَعْنَى لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ هُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ وَنَحْوِهِ. وَالْبَلَاءُ:
الْخِبْرَةُ. وَالْمُرَادُ هُنَا لِيَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، وَالْمُرَادُ لَازِمُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
لَمْ يُرِدْ لِأَعْلَمَ فَقَطْ وَلَكِنْ أَرَادَ لِيَظْهَرَ لِي وَلِلنَّاسِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ وَكَلَ اخْتِيَارَ طُرُقِ الْخَيْرِ وَأَضْدَادِهَا إِلَى عُقُولِ النَّاسِ وَكَسْبِهِمْ حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى لِيَتَسَابَقَ النَّاسُ إِلَى إِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ فَتَظْهَرُ آثَارُ الْعِلْمِ وَيَزْدَادُ أَهْلُ الْعِلْمِ عِلْمًا وَتُقَامُ الْأَدِلَّةُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يُظْهِرُ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلْخَيْرِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ، وَذَلِكَ مِنَ الِاخْتِبَارِ. وَلِذَلِكَ قَالَ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا آتَاكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ. فَيَظْهَرُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَبْلُغَ بَعْضُهَا دَرَجَاتٍ عَالِيَةً، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي آتَاكُمُوهَا فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ عَمَلِكُمْ بِهَا فَيَحْصُلُ الْجَزَاءُ بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ.
وَفَرَّعَ عَلَى لِيَبْلُوَكُمْ قَوْلَهُ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الِاسْتِبَاقِ يَكُونُ ظُهُورُ أَثَرِ التَّوْفِيقِ أَوْضَحَ وَأَجْلَى.
وَالِاسْتِبَاقُ: التَّسَابُقُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُنَافَسَةِ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْخَيْرِ لَا يَمْنَعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute