للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالدَّائِرَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَارَ إِذَا عَكَسَ سَيْرَهُ، فَالدَّائِرَةُ تَغَيُّرُ الْحَالِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، وَدَوَائِرُ الدَّهْرِ: نُوَبُهُ وَدُوَلُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: ٩٨] أَيْ تَبَدُّلَ حَالِكُمْ مِنْ نَصْرٍ إِلَى هَزِيمَةٍ. وَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الْفَتْح: ٦] إِنَّ إِضَافَةَ (دَائِرَةُ) إِلَى (السَّوْءِ) إِضَافَةُ بَيَانٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ لَمْ تُضَفِ الدَّائِرَةُ إِلَى السَّوْءِ عُرِفَ مِنْهَا مَعْنَاهُ. وَأَصْلُ تَأْنِيثِهَا لِلْمَرَّةِ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى التغيّر مُلَازمَة لصبغة التَّأْنِيثِ.

وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ يَقُولُ بِدُونِ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ. أَيْ إِذَا جَاءَ الْفَتْحُ أَوْ أَمْرٌ مِنْ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَهَنِ الْيَهُودِ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَيَقُولُ بِالْوَاوِ- وَبِرَفْعِ يَقُولُ عَطْفًا عَلَى فَعَسَى اللَّهُ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِالْوَاوِ- أَيْضًا وَبِنَصْبِ يَقُولُ عَطْفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَهؤُلاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ نِفَاقِهِمْ.

وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى طَائِفَةٍ مُقَدَّرَةِ الْحُصُولِ يَوْمَ حُصُولِ الْفَتْحِ، وَهِيَ طَائِفَةُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ هؤُلاءِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّعَجُّبِ، وَمَحَلُّ الْعَجَبِ هُوَ قَسَمُهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ هَذَا التَّعَجُّبُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ إِتْيَانِ الْفَتْحِ مَا يَفْتَضِحُ بِهِ أَمْرُهُمْ فَيَعْجَبُونَ مِنْ حَلِفِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلْمُؤْمِنِينَ.

وَجَهْدُ الْأَيْمَانِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- أَقْوَاهَا وَأَغْلَظُهَا، وَحَقِيقَةُ الْجَهْدِ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ وَمُنْتَهَى الطَّاقَةِ، وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَشَدِّ الْفِعْلِ وَنِهَايَةِ قُوَّتِهِ لِمَا بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ فِي مَعْنَى أوكد الْأَيْمَان وأغظلها، أَيْ أَقْسَمُوا أَقْوَى قَسَمٍ، وَذَلِكَ بِالتَّوْكِيدِ وَالتَّكْرِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَلَّظُ بِهِ الْيَمِينُ عُرْفًا. وَلَمْ أَرَ إِطْلَاقَ الْجَهْدِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ