أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبٍ خَاصٍّ اقْتَضَى إِعَادَةَ تَثْبِيتِ الرَّسُولِ عَلَى تَبْلِيغِ شَيْءٍ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ الَّذِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
فَأَمَّا هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ بَقِيَتْ سِنِينَ غَيْرَ مُلْحَقَةٍ بِسُورَةٍ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ مَقْرُوءَةً بِمُفْرَدِهَا، وَبِذَلِكَ تَنْدَحِضُ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ الَّتِي تَذْكُرُ حَوَادِثَ كُلَّهَا حَصَلَتْ فِي أَزْمَانٍ قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ عَشَرَةَ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ خَبَرَيْنِ آخَرَيْنِ، فَصَارَتِ اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا.
وَقَالَ الْفَخْرُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ الْأَقْوَالِ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ فَإِنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ آمَنَهُ مَكْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا كَانَ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَامْتَنَعَ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبَيْنِ فَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا اه. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ، بَلِ اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَلَعَلَّ الَّذِي حَدَّثَتْ بِهِ عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا حَكَاهُ الرَّاوِي حَكَّاهُ بِاللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَتَعَيَّنَ التَّعْوِيلُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَضِيَّةً مِمَّا جَرَى
ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَهِيَ عَلَى وَتِيرَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٤١] وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْمَائِدَة: ٤٩] فَكَمَا كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ فِي وَصْفِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ تُلِيَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوَصْفِ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْفَرِيقَانِ مُتَظَاهِرَانِ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرِيقٌ مُجَاهِرٌ، وَفَرِيقٌ مُتَسَتِّرٌ، فَعَادَ الْخَطَّابُ لِلرَّسُولِ ثَانِيَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute