ثُمَّ عُقِّبَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَثْبِيتِ جَنَانِهِ بِأَنْ لَا يَهْتَمَّ بِكَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ
وَأَنَّ كَيْدَهُمْ مَصْرُوفٌ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. فَحَصَلَ بِآخِرِ هَذَا الْخِطَابِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي الْخِطَابِ الْأَوَّلِ الَّتِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٤١] فَإِنَّهُمْ هُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ وَالَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّبْلِيغُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَبْلِيغُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ أَهْلِ الْكتاب.
وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الْآيُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَة. وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالتَّبْلِيغُ جَعْلُ الشَّيْءِ بَالِغًا. وَالْبُلُوغُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولُهُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حِكَايَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلَغَ الْخَبَرُ وَبَلَغَتِ الْحَاجَةُ. وَالْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦] . وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الشَّرِيعَةِ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ بِهَا (سَوَاءً كَانَ النَّازِلُ مُتَعَلِّقًا بِعَمَلٍ أَمْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَالَّذِي يَنْزِلُ بِبَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ فَضَائِلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ فِي الْقَصَصِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ لِفَوَائِدَ يَتَعَيَّنُ الْعِلْمُ بِهَا لِحُصُولِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا، عَلَى أَنَّ لِلْقُرْآنِ خُصُوصِيَّةً أُخْرَى وَهِيَ مَا لَهُ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، فَالْحَاجَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ مِنْهُ ثَابِتَةٌ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَحْوِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا بِهِ مِنْ مَوَاعِظَ وَعِبَرٍ) ، كَانَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِبْلَاغَ مَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ يُرَادُ عِلْمُهُ بِهِ وَهُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا حَذَفَ مُتَعَلِّقَ بَلِّغْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ جَمِيعَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يُدْرَى وَقْتُ ظُهُورِ حَاجَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ يَحْتَاجُهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute