كِتَابَ نِصَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ بَعَثَهُ لِذَلِكَ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالتَّبْلِيغِ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا أُنْزِلَ وَلَيْسَ عَيْنَ مَا أُنْزِلَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مِنْهُ تَخْصِيصَهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ قَدْ يُخْبِرُ بِهِ مَنْ تَدْعُو الْحَاجة إِلَى علمه بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتَهُ بِأَن يعيها ويؤيّديها كَمَا سَمِعَهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّبْلِيغِ فَأَمَّا أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَاصًّا بِأَحَدٍ وَأَنْ يَكْتُمَهُ الْمُودَعُ عِنْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدًا بِعِلْمٍ لَيْسَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى أُمُورِ التَّشْرِيعِ، مِنْ سِرٍّ يُلْقِيهِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، كَمَا أَسَرَّ إِلَى فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِأَنَّهُ يَمُوتُ يَوْمَئِذٍ وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لَحَاقًا بِهِ. وَأَسَرَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ. وَأَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ خَبَرَ فِتْنَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى عُثْمَانَ، كَمَا حَدَّثَ حُذَيْفَةُ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وِعَائَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي هَمَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَتِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاللَّهُ يَقُولُ لَهُ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ: «ثَلَاثٌ مَنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جَاءَ الشَّرْطُ بِإِنِ الَّتِي شَأْنُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْلِيغِ غَيْرُ مظنون بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا فُرِضَ هَذَا
الشَّرْطُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، لِيَسْتَفِيقَ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَنْ يَسْكُتَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute