لِأَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ يُوقِعَانِ فِي الضَّلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ وَانْعِدَامِ اسْتِفَادَةِ مَا يَنْفَعُ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ جَمْعٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ أَصْنَافِ حِرْمَانِ الِانْتِفَاعِ بِأَفْضَلِ نَافِعٍ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ غَلَبَ الْهَوَى عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّ الِانْسِيَاقَ إِلَيْهِ فِي الْجِبِلَّةِ، فَتَجَنُّبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَازِعِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَازِعُ جَاءَ سُوءُ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَعَمُوا وَصَمُّوا مُرَادًا مِنْهُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا الْأَعْمَالَ وَأَفْسَدُوا، فَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ قَوْلَهَ ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَأَكَّدَ هَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي تَذْيِيلِ الْآيَةِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
وَقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّشْدِ وَمَا أَعْقَبَهُ مِنْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَقَوْلِهِ:
ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا تَابَ عَلَيْهِمْ رَفَعَ عَنْهُمُ الْفِتْنَةَ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا، أَيْ عَادُوا إِلَى ضَلَالِهِمُ الْقَدِيمِ وَعَمَلِهِمُ الذَّمِيمِ، لِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى حُسْبَانِ أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ
أُخْرَى.
وَقَدْ وَقَفَ الْكَلَامُ عِنْدَ هَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الثَّانِي وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ إِعْرَاضًا شَدِيدًا مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَهَا.
وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى حَادِثَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ حَوَادِثِ عُصُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا حَادِثُ الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكَ (أَشُورَ) فَدَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّاتٍ سَنَةَ ٦٠٦ وَسَنَةَ ٥٩٨ وَسَنَةَ ٥٨٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ.
وَأَتَى فِي ثَالِثَتِهَا عَلَى مَدِينَةِ أُورْشَلِيمَ فَأَحْرَقَهَا وَأَحْرَقَ الْمَسْجِدَ وَحَمَلَ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَابِلَ أُسَارَى، وَأَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانَ مَظْهَرُهَا حِينَ غَلَبَ (كُورَشُ) مَلِكُ (فَارِسَ) عَلَى الْآشُورِيِّينَ وَاسْتَوْلَى عَلَى بَابِلَ سَنَةَ ٥٣٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَأُذِنَ لِلْيَهُودِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَيُعَمِّرُوهَا فَرَجَعُوا وَبَنَوْا مَسْجِدَهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute