(٧٩)
جُمْلَةُ لُعِنَ مُسْتَأْنِفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِيهَا تَخَلُّصٌ بَدِيعٌ لِتَخْصِيصِ الْيَهُودِ بِالْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ دُونَ النَّصَارَى. وَهِيَ خَبَرِيَّةٌ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: ٧٧] ، تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ فِيهَا اسْتِدْلَالًا عَلَى الْيَهُودِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَبِمَا فِي كُتُبِ النَّصَارَى.
وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ الضَّلَالَ مُسْتَمِرٌّ فِيهِمْ فَإِنَّ مَا بَين دَاوُود وَعِيسَى أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى لِسانِ داوُدَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَمَكُّنِ الْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنَى بَاءِ الْمُلَابَسَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] ، قُصِدَ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُلَابَسَةِ، أَيْ لعنُوا بِلِسَان دَاوُود، أَيْ بِكَلَامِهِ
الْمُلَابِسِ لِلِسَانِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ وَفِي سِفْرِ المزامير أنّ دَاوُود لَعَنَ الَّذِينَ يُبَدِّلُونَ الدِّينَ، وَجَاءَ فِي الْمَزْمُورِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ «اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبٍ اللَّهَ كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعًا فَسَدُوا- ثُمَّ قَالَ- أَخْزَيْتُهُمْ لِأَنَّ الله قد وفضهم لَيْتَ مِنْ صُهْيُونَ خَلَاصَ إِسْرَائِيلَ» وَفِي الْمَزْمُورِ ١٠٩ «قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَتَكَلَّمُوا مَعِيَ بِلِسَانٍ كَذِبٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلَا سَبَبٍ- ثُمَّ قَالَ- يَنْظُرُونَ إليّ وينغضون رؤوسهم- ثُمَّ قَالَ- أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارَكُ، قَامُوا وَخُزُوا أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ» ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَدْ ثَارُوا على دَاوُود مَعَ ابْنِهِ ابْشُلُومَ. وَكَذَلِكَ لَعْنُهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى مُتَكَرَّرٌ فِي الأناجيل. و «ذَلِك» إِشَارَةٌ إِلَى اللَّعْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ لُعِنَ أَوْ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذَا اللَّعْنِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ بِلَا سَبَبٍ. وَقَدْ أَفَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَمَعَ وُقُوعِهِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَفَادَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ مُفَادَ الْقَصْرِ، أَيْ لَيْسَ لَعْنُهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ صِيغَةُ قَصْرٍ، فَالْحَصْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مِنْ غَرَرِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» .
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَصْرِ أَنْ لَا يَضِلَّ النَّاسُ فِي تَعْلِيلِ سَبَبِ اللَّعْنِ فَرُبَّمَا أَسْنَدُوهُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الضُّلَّالِ فِي الْعِنَايَةِ بِالسَّفَاسِفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute