أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، نَظَرًا لِإِسْلَامِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَاسْتَنْكَرَ الْيَهُودُ أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَتَظَاهَرُوا بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونُوا عَيْنًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَمَعْنَى يَتَوَلَّوْنَ يَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاء.
وَالْمرَاد بالّذين كَفَرُوا مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الشِّرْكِ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ رَئِيسُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ كَانَ مُوَالِيًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ يُغْرِيهِمْ بِغَزْوِ الْمَدِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: ٥١] .
وَقَوْلُهُ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (أَنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ [الْإِسْرَاء: ٧٤] ، وَالْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ. وَالتَّقْدِيرُ: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ بِهِمْ أَنْفُسُهُمْ سُخْطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَسُخْطُ اللَّهِ مَذْمُومٌ. وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَخْصُوصُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضَبًا خَاصًّا لِمُوَالَاتِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ فِي الْكَلَامِ فَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِسُخْطِ اللَّهِ هُوَ اللَّعْنَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَة: ٧٨] . وَكَوْنُ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ مَعْلُومٌ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ إِلَخْ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمُ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمَعْنَى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَادِقًا مَا اتَّخَذُوا الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءً. وَالْمُرَادُ بالنّبيء محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيءَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْقُرْآنُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: ٢٨] . وَقَدْ جَعَلَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءُ الرَّسُولِ فَمُوَالَاتُهُمْ لَهُمْ عَلَامَةٌ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute