إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: ٩٢] ، وَقَوْلُهُ:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١] ، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَالْمَعْنَى لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا آمنُوا واتّقوا، ويؤوّل مَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا فِيمَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَئِذٍ وَمَا تَنَاوَلُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ إِلَّا قَبْلَ تَحْرِيمِهِمَا.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الْجَارِي عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَارِيًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مَنْ سَبَّبَ نُزُولَهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يُلَاحِظُوا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا لَا يُقْصِرُهَا عَلَى قَضِيَّةِ السَّبَبِ بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِي أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُخَصَّصُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَقَالُوا: رَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَيِّ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الْمَطَاعِمِ وَحَلَالِهَا، إِذَا مَا اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ حِرْمَانُ النَّفْسِ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ بَلِ الْبِرُّ هُوَ التَّقْوَى، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: ١٨٩] . وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مُبْتَدِئًا بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ.
وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ اللُّحُومَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ التَّرَهُّبِ. وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ هَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ طَعِمُوا مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَتَكُونُ كَلِمَةُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِعْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute