للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ عِلَّةٌ لقَوْله لَيَبْلُوَنَّكُمُ [الْمَائِدَة: ٩٤] لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ اخْتِبَارٌ، فَعِلَّتُهُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْهُ مَنْ يَخَافُهُ. وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ عِلَّةً لِلِابْتِلَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخَافُهُ، فَأُطْلِقَ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ ظُهُورُ ذَلِكَ وَتَمَيُّزُهُ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يُلَازِمُهُ التَّحَقُّقُ فِي الْخَارِجِ إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِعِلْمِ اللَّهِ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ تَعَلُّقٍ تَنْجِيزِيِّ لِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي انْفَصَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» . وَقِيلَ: أُطْلِقَ الْعِلْمُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ فِي الْخَارِجِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ قُصِدَ مِنْهُ التَّقْرِيبُ لِعُمُومِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَهُ غَيْبًا مِنَ امْتِثَالِ مَنِ امْتَثَلَ وَاعْتِدَاءِ مَنِ اعْتَدَى فَإِنَّهُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَخْلُقُ الْمَعْدُومَ فَيَعْلَمُهُ مُشَاهَدَةً، يَتَغَيَّرُ الْمَعْلُومُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْعِلْمُ» . وَالْبَاءُ إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ أَوْ

لِلظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَخافُهُ.

وَالْغَيْبُ ضِدُّ الْحُضُورِ وَضِدُّ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: ٣] عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ هُنَالِكَ، فَتَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ هُنَا بِقَوْلِهِ يَخافُهُ الْأَظْهَرُ أنّه تعلّق لمجرّة الْكَشْفِ دُونَ إِرَادَةِ تَقْيِيدٍ أَوِ احْتِرَازٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْبَقَرَة: ٦١] . أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ اللَّهِ، أَيْ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُ. وَجَمِيعُ مَخَافَةِ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا هِيَ مُخَالفَة بِالْغَيْبِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الْملك: ١٢] .

وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَتَنَوُّرِ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ خَافُوهُ وَلَمْ يَرَوْا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَنَعِيمَهُ وَثَوَابَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِذَلِكَ عَنْ صِدْقِ اسْتِدْلَالٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا

فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي