وَقَوْلُهُ: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابُ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ ثُمَّ الْإِذْنُ فِيهِ فِي حِينِ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ، أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ: إِنْ كَانَ السُّؤَالُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ بَعْضَ الْأَسْئِلَةِ يَسُوءُ جَوَابُهُ قَوْمًا، فَهَلِ الْأَوْلَى تَرْكُ السُّؤَالِ أَوْ إِلْقَاؤُهُ. فَأُجِيبَ بِتَفْصِيلِ أَمْرِهَا بِأَنَّ أَمْثَالَهَا قَدْ كَانَتْ سَبَبًا فِي كُفْرِ قَوْمٍ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ.
وَضَمِيرُ سَأَلَها جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ فعل تَسْئَلُوا، أَيْ سَأَلَ الْمَسْأَلَةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ.
وَجَرَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ سَأَلَ أَمْثَالَهَا. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي ضَآلَةِ الْجَدْوَى. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ سَأَلَها عَائِدًا إِلَى أَشْياءَ، أَيْ إِلَى لَفْظِهِ دُونَ مَدْلُولِهِ. فَالتَّقْدِيرُ: قَدْ سَأَلَ أَشْيَاءَ قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ، وَعُدِّيَ فِعْلُ سَأَلَ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ بَلْ هِيَ أَحَقُّ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ، فَإِنَّ أَصْلَ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى لَفْظٍ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهِ وَقَدْ يَعُودُ إِلَى لَفْظٍ دُونَ مَدْلُولِهِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: لَكَ دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا الدِّرْهَمُ الَّذِي أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ. وَالِاسْتِخْدَامُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَوْدُ الضَّمِيرَ عَلَى اللَّفْظِ مَعَ مَدْلُولٍ آخَرَ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ فِيهِ تَرَاخِيَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَرَاخِي مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فِي تَصَوُّرِ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ تَصَوُّرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ لَمْ يَكُنْ يُتَرَقَّبُ حُصُولُ مَضْمُونِهَا حَتَّى فَاجَأَ الْمُتَكَلِّمُ. وَقَدْ مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥] .
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِ أَصْبَحُوا، أَيْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ سَبَبًا فِي كُفْرِهِمْ، أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا حَصَلَ مِنْ جَوَابِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «لِلتَّعْدِيَةِ»
فَتَتَعَلَّقُ بِ كافِرِينَ، أَيْ كَفَرُوا بِهَا، أَيْ بِجَوَابِهَا بِأَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا رُسُلَهُمْ فِيمَا أَجَابُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ مُفِيدٌ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ مَا كَفَرُوا إِلَّا بِسَبَبِهَا، أَيْ كَانُوا فِي مَنَعَةٍ مِنَ الْكُفْرِ لَوْلَا تِلْكَ الْمَسَائِلُ، فَقَدْ كَانُوا كَالْبَاحِثِ عَلَى حَتْفِهِ بِظِلْفِهِ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ ادِّعَائِيٌّ، أَوْ هُوَ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute