خَاطَبَ مَنْ يَكُونُ مَحِلَّ الْغَفْلَةِ أَوْ مَشْغُولَ الْبَالِ يُقَدِّمُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ شَيْئًا لِيَلْفِتَ الْمُخَاطَبَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُقَدَّمِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْمَقْصُودِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ كَلَامًا مِثْلَ النِّدَاءِ وَحُرُوفِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّمُ صَوْتًا كَمَنْ يُصَفِّقُ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ السَّامِعُ فَاخْتَارَ الْحَكِيمُ لِلتَّنْبِيهِ حُرُوفًا مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى قَصْدِ التَّنْبِيهِ مُتَعَيِّنَةً إِذْ لَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ فَتَمَحَّضَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَرَضٍ مُهِمٍّ.
الْقَوْلُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا إِعْجَازٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ قَدْ نَطَقَ
بِأُصُولِ الْقِرَاءَةِ كَمَا يَنْطِقُ بِهَا مَهَرَةُ الْكَتَبَةِ فَيَكُونُ النُّطْقُ بِهَا مُعْجِزَةً وَهَذَا بَيِّنُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ.
الْقَوْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦] فَأُورِدَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْحُرُوفُ لِيُقْبِلُوا عَلَى طَلَبِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا فَيَقَعُ إِلَيْهِمْ مَا يَتْلُوهَا بِلَا قَصْدٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ السَّادِسَ عَشَرَ.
الْقَوْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا عَلَامَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وُعِدُوا بِهَا مِنْ قِبَلِ أَنْبِيَائِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يُفْتَتَحُ بِحُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ.
الْقَوْلُ الْعِشْرُونَ: قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ فَأَرَاهُمْ أَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفٍ كَحُرُوفِ الْكَلَامِ، وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ مِنْ أَصْوَاتِ الْكَلِمَاتِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى حُدُوثِهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لِقِلَّةِ أَصْوَاتِهَا.
الْقَوْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَنَاءٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي.
هَذَا جُمَّاعُ الْأَقْوَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِرَاءَةَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ أَلِفْ. لَامْ. مِيمْ دون أَن يقرأوا أَلَمْ وَأَنَّ رَسْمَهَا فِي الْخَطِّ بِصُورَةِ الْحُرُوفِ يُزَيِّفُ جَمِيعَ أَقْوَالِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَيُعَيِّنُ الِاقْتِصَارَ عَلَى النَّوْعَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى أَنَّ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَيْنِكَ النَّوْعَيْنِ مُتَفَاوِتٌ فِي دَرَجَاتِ الْقَبُولِ، فَإِنَّ الْأَقْوَالَ الثَّانِيَ، وَالسَّابِعَ، وَالثَّامِنَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَالسَّادِسَ عَشَرَ، يُبْطِلُهَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَوْ كَانَتْ مُقْتَضَبَةً مِنْ أَسْمَاءٍ أَوْ كَلِمَاتٍ لَكَانَ الْحَقُّ أَن ينْطق بمسمياتها لَا بِأَسْمَائِهَا. فَإِذَا تَعَيَّنَ هَذَانِ النَّوْعَانِ وَأَسْقَطْنَا مَا كَانَ مِنَ الْأَقْوَال المندرجة تحتمها وَاهِيًا، خَلَصَ أَنَّ الْأَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ كَوْنُ تِلْكَ الْحُرُوفِ لِتَبْكِيتِ الْمُعَانِدِينَ وَتَسْجِيلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute