فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي تَرْكِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِأَدِلَّةٍ طَفَحَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ. فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي شَرْطِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وَلِمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ فَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ بِ مَنْ ضَلَّ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ مِنْ خَفَاءِ
تَفَارِيعِ أَنْوَاعِ الِاهْتِدَاءِ عَرَضَ لِبَعْضِ النَّاسِ قَدِيمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَشَكُّوا فِي أَنْ يَكُونَ مُفَادُهَا التَّرْخِيصَ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ الظَّنُّ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهَا أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقَالَ لِي: سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ» .
وَحَدَثَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ:
أَخْرَجَ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِسُقُوطِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ
. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قُرِئَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ (أَيِ النَّصِيحَةُ) وَلَكِنْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (يُرِيدُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ قِتَالٌ لِتُقْبَلَ نَصِيحَتُهُمْ) . وَعَنْهُ أَيْضًا:
إِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةَ) لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَلَا لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودُ وَأَنْتُمُ الْغَيْبُ،
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَة لأقوام يجيؤون مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute