للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٠٨)

اسْتُؤْنِفَتْ هَذِهِ الْآيُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِشَرْعِ أَحْكَامِ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، تَحْقِيقًا لِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَاسْتِقْصَاءً لِمَا قَدْ يحْتَاج إِلَى علمه الْمُسْلِمُونَ وَمَوْقِعُهَا هُنَا سَنَذْكُرُهُ.

وَقَدْ كَانَت الْوَصِيَّة مَشْرُوعِيَّة بِآيَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٠] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَفِي مِقْدَارِ مَا نُسِخَ مِنْ حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَا أُحْكِمَ فِي مَوْضِعِهِ هُنَالِكَ. وَحَرَصَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَأَمَرَ بِهَا، فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً مُتَدَاوَلَةً مُنْذُ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ الْمَرْءُ يُوصِي لِمَنْ يُوصِي لَهُ بِحَضْرَةِ وَرَثَتِهِ وَقَرَابَتِهِ فَلَا يَقَعُ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ حُرْمَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِنْفَاذِهَا حِفْظًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْقِيقِ حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى الْقُرْآنُ عَنْ شَرْعِ التَّوَثُّقِ لَهَا بِالْإِشْهَادِ، خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنْ بَيَانِ التَّوَثُّقِ فِي التَّبَايُعِ بِآيَةِ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] وَالتَّوَثُّقُ فِي الدَّيْنِ بِآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] إِلَخْ فَأَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانَ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ اهْتِمَامًا بِهَا وَلِجَدَارَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّوْثِيقِ لَهَا لِضَعْفِ الذِّيَادِ عَنْهَا لِأَنَّ الْبُيُوعَ وَالدُّيُونَ فِيهَا جَانِبَانِ عَالِمَانِ بِصُورَةِ مَا انْعَقَدَ فِيهَا وَيَذُبَّانِ عَنْ مَصَالِحِهِمَا فَيَتَّضِحُ الْحَقُّ مِنْ

خِلَالِ سَعْيِهِمَا فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ فِيهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا جَانِبًا وَاحِدًا وَهُوَ جَانِبُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصِي يَكُونُ قَدْ مَاتَ وَجَانِبُ الْمُوصَى لَهُ ضَعِيفٌ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا عَقَدَ الْمُوصِي وَلَا بِمَا تَرَكَ، فَكَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا.

وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْفِظُونَ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَحَدٍ يَثِقُونَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ كُبَرَاءِ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ احْتِضَارَ الْمُوصِي أَوْ مَنْ كَانَ أَوْدَعَ