وَتَمْحِيضًا لِلْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ يُحَسِّنُهُ أَنْ يكون لَهُ مُقْتَض زَائِدٌ عَلَى نَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ الْمُرَادُ مِنْهُ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ. وَتَكُونُ الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً وَمَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا ابْتِدَائِيًّا.
وَاسْتَعْمَلَ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِتْيَانُ مَاضِيًا أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا.
وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهَا بُلُوغُهَا إِلَيْهِمْ وَتَحَدِّيهِمْ بِهَا، فَشَبَّهَ الْبُلُوغَ بِمَجِيءِ الْجَائِي، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَحَذَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَانِبِ الْمَأْتِيِّ مِنْهُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِقَصْدِ عُمُومِ الْآيَاتِ الَّتِي أَتَتْ وَتَأْتِي.
ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ كُلُّ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي لإعجازها لم كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] .
وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوقِ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى مَنْ يَأْتِيهِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي مُرْسَلٌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ وَيَنْظُرَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَعَلَّهُ يُعْرِضُ عَمَّا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ.
وَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَاخْتِيرَ الْإِتْيَانُ فِي خَبَرِ كَانَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ دَلَالَةِ فِعْلِ الْكَوْنِ، وَمُتَجَدِّدٌ مِنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُشْتَقَّاتِ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ إِلَّا الْإِعْرَاضُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute