للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ الْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَيَجُوزُ أَن تكون بصربة بِتَقْدِيرِ: أَلَمْ يَرَوْا آثَارَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَدِيَارِ عَادٍ وَحِجْرِ ثَمُودَ، وَقَدْ رَآهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي رِحْلَاتِهِمْ، وَحَدَّثُوا عَنْهَا النَّاسَ حَتَّى تَوَاتَرَتْ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ وَتَحَقَّقَتْهَا نُفُوسُهُمْ.

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَفِعْلُ يَرَوْا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ الْمَفْعُولِ، بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ كَمْ.

وَ (كَمِ) اسْمٌ لِلسُّؤَالِ عَنْ عَدَدٍ مُبْهَمٍ فَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرٍ، وَهُوَ تَمْيِيزُهُ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً فَتَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ كَبِيرٍ مُبْهَمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُفَسِّرٍ هُوَ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ. فَأَمَّا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فَمُفَسِّرُهَا مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَمُفَسِّرُهَا مَجْرُورٌ لَا غَيْرَ، وَلَمَّا كَانَ (كَمِ) اسْمًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ لَهُ مَوْقِعُ الْأَسْمَاءِ بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَجَرٌّ، فَهِيَ هُنَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِـ يَرَوْا. وَ (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَرْنٍ فَزَائِدَةٌ جَارَّةٌ لِمُمَيِّزِ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُمَيِّزِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ جَرَّهُ بِ (مِنْ) ، كَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالْقَرْنُ أَصْلُهُ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي دَامَتْ طَوِيلًا. قَالَ تَعَالَى:

مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. وَفَسَّرَ الْقَرْنَ بِالْأُمَّةِ الْبَائِدَةِ. وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الْجِيلِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَيُطْلَقُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَنِ قَدْرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

وَجُمْلَةُ: مَكَّنَّاهُمْ صِفَةٌ لِ قَرْنٍ وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ مَعْنَى الْقَرْنِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى جَمْعٍ.

وَمَعْنَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ثَبَّتْنَاهُمْ وَمَلَّكْنَاهُمْ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَضَعَ لَهُ مَكَانًا. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ:

أَرْضٌ لَهُ. وَيُكَنَّى بِالتَّمْكِينِ عَنِ الْإِقْدَارِ وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَكَانِ يَتَصَرَّفُ فِي مَكَانِهِ وَبَيْتِهِ