كَمَا يُقَالُ: أَحْمَدَهُ، وَجَدَهُ مَحْمُودًا. وَأَمَّا كَذَّبَ- بِالتَّشْدِيدِ- فَهُوَ لِنِسْبَةِ الْمَفْعُولِ إِلَى الْكَذِبِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ أَكْذَبَهُ هُوَ بِمَعْنَى كَذَّبَ مَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَنْسِبِ الْمَفْعُولَ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ كَذَّبَهُ هُوَ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ مَعْنَى كَذَّبْتُهُ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَمَعْنَى أَكْذَبْتُهُ، أَرَيْتُهُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِبٌ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اسْتِدْرَاكٌ لِدَفْعِ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ لَا يُكَذِّبُونَكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ أَصْلُ التَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْسُبُ الْآتِيَ بِالْآيَاتِ إِلَى الْكَذِبِ وَمَا هُمْ بِمُكَذِّبِينَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَالْجَحْدُ وَالْجُحُودُ، الْإِنْكَارُ لِلْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، أَيِ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مَا يُنْكَرُ، فَهُوَ نَفْيُ مَا يَعْلَمُ النَّافِي ثُبُوتَهُ، فَهُوَ إِنْكَارُ مُكَابَرَةٍ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ذَمًّا لَهُمْ وَإِعْلَامًا بِأَنَّ شَأْنَ الظَّالِمِ الْجَحْدُ بِالْحُجَّةِ، وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ سَجِيَّتُهُمْ.
وَعَدَّى يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّحْل: ١٤] لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْجَحْدِ بِالْمَجْحُودِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء:
٥٩] ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعُ عَاثِرَا
ثُمَّ إِنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ الْجَحْدُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَجَحْدُهَا إِنْكَارُ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَكْذِيبُ الْآتِي بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَكَيْفَ يُجْمَعُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَاذِبٌ لِأَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بَيْنَهُمْ بِالْأَمِينِ. وَقَدْ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَمَّا تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا أَرْضَاكُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute