للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْبَكَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاسْتِرْشَادِ مِمَّنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَالظَّلَامُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّبَصُّرِ فِي الطَّرِيقِ أَوِ الْمَنْفَذِ الْمُخْرِجِ لَهُمْ مِنْ مَأْزِقِهِمْ.

وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ عُمْيٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاء: ٩٧] لِيَكُونَ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا مَا يَصْلُحُ لِشَبَهِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالَّذِي أَصَارَهُمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضَّلَالِ يُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الدَّاخِلِ فِيهِ وَبَيْنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

. فَهَذَا التَّمْثِيلُ جَاءَ عَلَى أَتَمِّ شُرُوطِ التَّمْثِيلِ. وَهُوَ قَبُولُهُ لِتَفْكِيكِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَتَيْنِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ مُفْرَدَةٍ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:

كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهادى كَوَاكِبُهْ

وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ جَارٍ عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الظُّلْمَةِ مُفْرَدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ، وَظُلْمَةِ الْعِنَادِ.

وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ خَبَرٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ خَبَرٌ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَا يَجُوزُ فِي النُّعُوتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الْعَطْفِ وَتَرْكِهِ.

وَقَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمُ الْعَجِيبَةَ تُثِيرُ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا بَالُهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ هُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ بِالْحَذْفِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَام: ٣٥] .

وَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ الضَّلَالَ بِأَنْ يَخْلُقَ الضَّالَّ بِعَقْلٍ قَابِلٍ لِلضَّلَالِ مُصِرٍّ عَلَى ضَلَالِهِ عَنِيدٍ عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي مَبَادِئِ الضَّلَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَعَظَهُ وَاعِظٌ أَوْ

خَطَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ خَاطِرٌ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ مَنَعَهُ إِصْرَارُهُ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ فَلَا يَزَالُ يَهْوِي بِهِ فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى غَايَةِ التَّخَلُّقِ بِالضَّلَالِ فَلَا يَنْكَفُّ عَنْهُ. وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ