عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَنَّاهُمْ لِيَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ شُفُوفًا وَاسْتِحْقَاقًا لِلتَّقَدُّمِ فِي الْفَضَائِلِ اغْتِرَارًا بِحَالِ التَّرَفُّهِ فَيَعْجَبُوا كَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ بِالْهُدَى وَالْفَضْلِ عَلَى نَاسٍ يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُم، وَكَيف يعدّونهم دُونَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الْكَاذِبِ. وَنَظِيرُهُ فِي طَيِّ الْعِلَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَثَرِهَا قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأَعْلَمَهُمَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَر: ٢٥] . وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ أَوِ التَّعْجِيبِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦] .
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُمْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَمُجَارَاةِ الْخَصْمِ، أَيْ حَيْثُ اعْتَقَدَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَحَرَمَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، أَيْ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى فُقَرَاءٍ وَعَبِيدٍ وَيَتْرُكُ سَادَةَ أَهْلِ الْوَادِي.
وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] . وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالطُّغَاةِ. وَقَدْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلُ هَذَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَخَابُوا وَخَسِرُوا (أَيْ أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ) فَقَالَ: نعم قَالَ: فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ، وَضَمِيرُ لِيَقُولُوا عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْبَعْضَ الْمَفْتُونِينَ، وَيَكُونُ الْبَعْضُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ صَادِقًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute