وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: ١١] ، وَسُمِّيَ فِي الْآثَارِ عِزْرَائِيلُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتَ أَعْوَانًا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ.
وَعُلِّقَ فِعْلُ التَّوَفِّي بِضَمِيرِ أَحَدَكُمُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَحَدِكُمُ الْمُنَاسِبِ لِلتَّوَفِّي، وَهُوَ الْحَيَاةُ، أَيْ تَوَفَّتْ حَيَّاتُهُ وَخَتْمَتْهَا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ رُوحِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَوَفَّتْهُ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْفَاءِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ مَرْسُومَةٌ- بِنُتْأَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ- فَتَصْلُحُ لِأَنَّ تَكُونُ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مُثَنَّاةً تَحْتِيَّةً عَلَى لُغَةِ الْإِمَالَةِ. وَهِيَ الَّتِي يُرْسَمُ بِهَا الْأَلِفَاتُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءَاتِ. وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ حَالٌ. وَالتَّفْرِيطُ: التَّقْصِيرُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِضَاعَةُ فِي الذَّوَاتِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا قَدْ تَمَّ أَجْلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَ تَوَفِّيَهُ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوا عَائِدٌ إِلَى أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ تَنْكِيرِهِ الصَّادِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ، أَيْ ثُمَّ يُرَدُّ الْمُتَوَفَّوْنَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ رُدُّوا إِلَى حُكْمِهِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْتِفَاتٌ.
وَالْمَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى الْعَبْدِ.
والْحَقِّ- بِالْجَرِّ- صِفَةٌ لِ مَوْلاهُمُ، لِمَا فِي مَوْلاهُمُ مِنْ مَعْنَى مَالِكِهِمْ، أَيْ مَالِكِهِمُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَشُوبُ مُلْكَهُ بَاطِلٌ يُوهِنُ مُلْكَهُ. وَأَصْلُ الْحَقِّ أَنَّهُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ فَإِنَّ كُلَّ مُلْكٍ غَيْرَ مُلْكِ الْخَالِقِيَّةِ فَهُوَ مَشُوبٌ باستقلال مَمْلُوكه عِنْد اسْتِقْلَالا تَفَاوتا، وَذَلِكَ يُوهِنُ الْمُلْكَ وَيُضْعِفُ حَقِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَذْيِيلٌ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ. وَالْعَرَبُ يَجْعَلُونَ التَّذْيِيلَاتِ مُشْتَمِلَةً عَلَى اهْتِمَامٍ أَوْ عُمُومٍ أَوْ كَلَامٍ جَامِعٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute