وَجَدُوهُ مَحْذُوفَ أَحَدِ الْأُصُولِ، وَوَجَدُوهُ جَارِيًا عَلَى نَحْوِ يَعِدُ وَيَرِثُ فَجَزَمُوا بِأَنَّ الْمَحْذُوفَ مِنْهُ الْفَاءُ وَأَنَّهَا وَاوٌ. وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي نَحْوِ ذَرْ وَدَعْ مَعَ أَنَّهَا مَفْتُوحَةُ الْعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَذْفُ تَخْفِيفٍ لَا حَذْفُ دَفْعِ ثِقَلٍ، بِخِلَافِ حَذْفِ يَعِدُ وَيَرِثُ.
وَمَعْنَى: (ذَرِ) اتْرُكْ، أَيْ لَا تُخَالِطْ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِاسْتِهْزَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] ، وَقَوْلِهِ:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلِ طَرَفَةَ:
فَذَرْنِي وَخُلْقِي إِنَّنِي لَكَ شَاكِرٌ ... وَلَوْ حَلَّ بَيْتِي نَائِيًا عِنْدَ ضَرْغَدِ
أَيْ لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِضَلَالِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ فَالتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمْ، أَوْ لَا تَعْبَأْ بِهِمْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَصُدَّكَ سُوءُ اسْتِجَابَتِهِمْ عَنْ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ.
وَالدِّينُ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةَ، أَيْ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَيَنْتَحِلُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ
أَيِ اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، أَيْ جَعَلُوا الدِّينَ مَجْمُوعَ أُمُورٍ هِيَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، أَيِ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ عِنْدَ الْأَصْنَامِ فِي مَوَاسِمِهَا، وَالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: ٣٥] .
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِمَكَانِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ مَا هُوَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ دِينًا لَهُمْ بَلْ عَمَدُوا إِلَى أَنْ يَنْتَحِلُوا دِينًا فَجَمَعُوا لَهُ أَشْيَاءَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَسَمَّوْهَا دِينًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ الْعَادَةَ، كَقَوْلِ الْمُثَقَّبِ الْعَبْدِيِّ:
تَقُولُ وَقَدْ درأت لَهَا وظيني ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي
أَيِ الَّذِينَ دَأْبُهُمُ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي مُعَامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.