للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَجَانِينِهِمْ وَمَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ اخْتَطَفَتْهُمْ. وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ عَمْرُو بْنُ عُدَيٍّ الْإِيَادِيُّ اللَّخْمِيُّ ابْنُ أُخْتِ جُذَيْمَةَ بْنِ مَالِكٍ مَلِكِ الْحَيْرَةِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِ حَيْرانَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضٍ لِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ.

وحَيْرانَ حَال من كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ، وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى السَّبِيلِ. يُقَالُ: حَارَ يَحَارُ إِذْ تَاهَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَعْلَمِ الطَّرِيقَ. وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مَخْرَجُهُ، وَانْتَصَبَ حَيْرانَ عَلَى الْحَال من كَالَّذِي.

وَجُمْلَةُ: لَهُ أَصْحابٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ مَعَهُ حِينَ أَصَابَهُ اسْتِهْوَاءُ الْجِنِّ.

فَجُمْلَةُ يَدْعُونَهُ صِفَةٌ لِ أَصْحابٌ.

وَالدُّعَاءُ: الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ عَمَلٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَالْهُدَى: ضِدُّ الضَّلَالِ. أَيْ يَدْعُونَهُ إِلَى مَا فِيهِ هُدَاهُ. وَإِيثَارُ لَفْظِ الْهُدَى هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ.

فَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَجْرِيدٌ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] . وَلِذَلِكَ كَانَ لِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَقْعٌ بَدِيعٌ. وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْهُدَى مُسْتَعَارًا لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَجُمْلَةُ: ائْتِنا بَيَانٌ لِ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَصَحَّ أَنْ يُبَيَّنَ بِمَا يَقُولُونَهُ إِذَا دَعَوْهُ، وَلِكَوْنِهَا بَيَانًا فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانِ الدُّعَاءِ إِلَى الْهُدَى لِتَمْكِينِ التَّمْثِيلِ مِنْ ذِهْنِ السَّامِعِ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبُ بِصَرِيحِ الْمَقْصِدِ فَلَا يُدْعَى إِلَى الْهُدَى بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ لِأَنَّ مِنْ خُلُقِ الْمَجَانِينِ الْعِنَادَ وَالْمُكَابَرَةَ، فَلِذَلِكَ يَدْعُونَهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ رَغْبَتُهُمْ فِي صُحْبَتِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ إيّاه، فَيَقُولُونَ: ايتنا، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ أَوْثَقُوهُ وَعَادُوا بِهِ إِلَى بَيْتِهِ.

وَقَدْ شُبِّهَتْ بِهَذَا التَّمْثِيلِ الْعَجِيبِ حَالَةُ مَنْ فُرِضَ ارْتِدَادُهُ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ بَعْدَ هُدَى الْإِسْلَامِ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ وَتَرْكِهِ أَصْحَابَهُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُ عَنْهُ، بِحَالِ الَّذِي فَسَدَ عَقْلُهُ بِاسْتِهْوَاءٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، فَتَاهَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاقِلًا عَارِفًا بِمَسَالِكِهَا، وَتَرَكَ رُفْقَتَهُ الْعُقَلَاءَ يَدْعُونَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ الْبَدِيعُ