للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ فَذَلِكَ تَخْلِيطٌ بَيْنَ مَزَاعِمِ الشِّرْكِ وَمَا يَتَلَقَّوْنَهُ عَنِ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ بِدُونِ تَأَمُّلٍ.

وَالْآخِرَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ هِيَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ فَإِنَّ الْآخِرَةَ صِفَةُ تَأْنِيثِ الْآخِرِ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الْحَاصِلُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ فِي فِعْلٍ أَوْ حَالٍ، وَتَأْنِيثُ وَصْفِ الْآخِرَةِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ حُذِفَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَصَيْرُورَتِهِ مَعْلُومًا وَهُوَ يُقَدَّرُ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ مُرَاعَاةً لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيِ الْقَرِيبَةُ بِمَعْنَى الْحَاضِرَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهَا الْعَاجِلَةُ ثُمَّ صَارَتِ الْآخِرَةُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْبَعْثِ لِإِجْرَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَمَعْنَى:

وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ أَوْ بَعْدَ شَكٍّ سَابِقٍ وَلَا يَكُونُ شَكٌّ إِلَّا فِي أَمْرٍ ذِي نَظَرٍ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنَ الْعِلْمِ. وَاحْتَجَّ الرَّاغِبُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: ٦، ٧] وَلِذَلِكَ لَا يُطْلِقُونَ الْإِيقَانَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَلَا عَلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ إِطْلَاقًا عُرْفِيًّا حَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ ظَنٌّ وَيُشْتَبَهُ بِالْعِلْمِ الْجَازِمِ فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِلْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ.

فَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ بِمَادَّةِ الْإِيقَانِ لِأَنَّ هَاتِهِ الْمَادَّةَ، تُشْعِرُ بِأَنَّهُ عِلْمٌ حَاصِلٌ عَنْ تَأَمُّلِ وَغَوْصِ الْفِكْرِ فِي طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَمَّا كَانَتْ حَيَاةً غَائِبَةً عَنِ الْمُشَاهَدَةِ غَرِيبَةً بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ كَثُرَتِ الشُّبَهُ الَّتِي جَرَّتِ الْمُشْرِكِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ عَلَى نَفْيِهَا وَإِحَالَتِهَا، كَانَ الْإِيمَانُ بِهَا جَدِيرًا بِمَادَّةِ الْإِيقَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَلِإِيثَارِ يُوقِنُونَ هُنَا خُصُوصِيَّةٌ مُنَاسِبَةٌ لِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَالَّذِينَ جَعَلُوا الْإِيقَانَ وَالْإِيمَانَ مُتَرَادِفَيْنِ جَعَلُوا ذِكْرَ الْإِيقَانِ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ لَفْظِ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تَقْدِيمٌ لِلْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ يُوقِنُونَ عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، وَأَرَى أَنَّ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ ثَنَاءً عَلَى هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِأَهَمِّ مَا يُوقِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَلَيْسَ التَّقْدِيمُ بِمُفِيدٍ حَصْرًا إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ

صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَشَارِحُوهُ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيمِ وَيَخْرُجُ الْحَصْرُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِذَاتِ الْمَحْصُورِ فِيهِ إِلَى تَعَلُّقِهِ بِأَحْوَالِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْحَصْرِ.