للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَدْ جَهِلُوا مَا يُفْضِي إِلَى الْجَهْلِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ، وَجَهِلُوا رَحْمَتَهُ لِلنَّاسِ وَلُطْفَهُ بِهِمْ.

وَمَقَالُهُمْ هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِنَفِيِ الْجِنْسِ، وَيَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ بِاقْتِرَانِهِ بِ مِنْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَيْضًا، وَيَعُمُّ إِنْزَالَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَحْيَ عَلَى الْبَشَرِ بِنَفْيِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ.

وَالْمُرَادُ بِ شَيْءٍ هُنَا شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُفْحِمَهُمْ بِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٍ وَإِلْجَاءٍ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَذَكَّرَهُمْ بِأَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَحَدَهُ لِتَوَاتُرِهِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُوَ رِسَالَةُ مُوسَى وَمَجِيئُهُ بِالتَّوْرَاةِ وَهِيَ تُدْرَسُ بَيْنَ الْيَهُودِ

فِي الْبَلَدِ الْمُجَاوِرِ مَكَّةَ، وَالْيَهُودُ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى مَكَّةَ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا وَفِيهَا الْيَهُودُ وَأَحْبَارُهُمْ، وَبِهَذَا لَمْ يُذَكِّرْهُمُ اللَّهُ بِرِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ صُحُفًا فَكَانَ قَدْ يَتَطَرَّقُهُ اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ رِسَالَتِهِ وَنُبُوءَتِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ إِنْكَارَهُ كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَوَابُ آخِرَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا فَانْتَقَضَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ قَاعِدَةِ نَقْضِ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ بِمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ. وَافْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْإِفْحَامِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُور النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ.

وَالنُّورُ: اسْتِعَارَةٌ لِلْوُضُوحِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، كَمَا يُشَبَّهُ الْبَاطِلُ بِالظُّلْمَةِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ التَّنُوخِيُّ:

وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهَا ... سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ

وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ هُدىً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٤٤] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ. وَلَوْ أَطْلَقَ النُّورَ عَلَى سَبَبِ الْهُدَى لَصَحَّ لَوْلَا