تَفَاوَتَتِ الْبُلَغَاءُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبْحَثِ تَعْرِيفِ الْبَلَاغَةِ وَحَدُّ الْإِعْجَازِ هُوَ الطَّرَفُ الْأَعْلَى لِلْبَلَاغَةِ الْجَامِعُ لِأَقْصَى الْخُصُوصِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَلَمَّا وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا شَيْئَانِ يَصْلُحَانِ لِأَنْ يُشَبَّهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ كَانَ حَقُّ هَذَا الْمَقَامِ تَشْبِيهُ التَّمَكُّنِ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَدِيعٌ وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ عَلَى وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْأَتَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَحْسُنْ تَشْبِيهُ شَيْءٍ مِنْهَا بِآخَرَ أُلْغِيَ التَّشْبِيهُ الْمُفْرَدُ فِيهَا إِذْ لَا يَحْسُنُ تَشْبِيهُ الْمُتَّقِي بِخُصُوصِ الرَّاكِبِ وَلَا الْهُدَى بِالْمَرْكُوبِ فَتَكُونُ «عَلَى» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْضًا مِنَ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ دَلِيلًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارٍ وَمَجَازًا مُفْرَدًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَتِ الْحَالَةَ بِالْحَالَةِ وَحُذِفَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْمَرْكَبُ الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ كَأَنْ يُقَالَ رَاكِبِينَ مَطِيَّةَ الْهُدَى وَأَبْقَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَهُوَ أُولئِكَ وَالْهُدَى، وَرَمْزٌ لِلْمَرْكَبِ الدَّالِّ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ لَفْظُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ عُرْفًا كَمَا عَلِمْتُمْ، فَتَكْمُلُ لَنَا فِي أَقْسَامِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ: الِاسْتِعَارَةُ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ الْمُفْرَدَةِ فَيَكُونُ التَّمْثِيلُ مِنْهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي التَّحَسُّرِ وَمِنْهُ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ نَحْوَ أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى وَمِنْهُ مَكْنِيَّةٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَلَى رَأْيِنَا، وَمِنْهُ تَبَعِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
وَفَارِسٍ فِي غِمَارِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسٍ ... إِذَا تَأَلَّى عَلَى مَكْرُوهَةٍ صَدَقَا
فَإِنَّ مُنْغَمِسٍ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ إِحَاطَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِهَيْئَةِ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ الْمِيَاهُ الْمُهْلِكَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلَفْظُ مُنْغَمِسٍ تَبَعِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ.
وَإِنَّمَا نُكِّرَ هُدًى وَلَمْ يُعَرَّفْ بِاللَّامِ لِمُسَاوَاةِ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ هُنَا إِذْ لَوْ عُرِّفَ لَكَانَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَرَجَّحَ التَّنْكِيرَ تَمْهِيدًا لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْهُدَى السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مُغَايَرَةً بِالِاعْتِبَارِ إِذِ الْقَصْدُ التَّنْوِيهُ هُنَا بِشَأْنِ الْهُدَى وَتَوَسُّلًا إِلَى إِفَادَةِ تَعْظِيمِ الْهُدَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَدْحِ وَبِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فَتَعَيَّنَ قَصْدُ التَّعْظِيمِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْهُدَى يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا وَصَفَ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْهُدَى وَتَشْرِيفِهِ مَعَ الْإِشَارَةٍ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ هِيَ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ لِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
بِالْقَرِينَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute