للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جَوَارِحِ سَمْعِهِمْ. وَقَدْ تَكُونُ فِي إِفْرَادِ السَّمْعِ لَطِيفَةٌ رُوعِيَتْ مِنْ جُمْلَةِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هِيَ أَنَّ الْقُلُوبَ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً وَاشْتِغَالُهَا بِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ، وَبِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ وَتَتَلَقَّى أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْآيَاتِ فَلِكُلِّ عَقْلٍ حَظُّهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَكَانَتِ الْأَبْصَارُ أَيْضًا مُتَفَاوِتَةَ التَّعَلُّقِ بِالْمَرْئِيَّاتِ الَّتِي فِيهَا دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ الَّتِي فِيهَا دَلَالَةٌ، فَلِكُلِّ بَصَرٍ حَظُّهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ مَا تَتَعَلَّقَانِ بِهِ جُمِعَتْ. وَأَمَّا الْأَسْمَاعُ فَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَالْجَمَاعَاتُ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوهُ سَمَاعًا مُتَسَاوِيًا وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي تَدَبُّرِهِ وَالتَّدَبُّرُ مِنْ عَمَلِ الْعُقُولِ فَلَمَّا اتَّحَدَ تَعَلُّقُهَا بِالْمَسْمُوعَاتِ جُعِلَتْ سَمْعًا وَاحِدًا.

وَإِطْلَاقُ أَسْمَاءِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ عَنْ أَعْمَالِهَا وَمَصَادِرِهَا جَازَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُفْرَدِ إِفْرَادُهُ وَجَمْعُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا هُنَا فَأَمَّا الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَصِحَّ، قَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» (١) : قَالَ بَعْضُهُمْ لِغُلَامٍ لَهُ اشْتَرِ لِي رَأْسَ كَبْشَيْنِ فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لَا

يَكُونُ، فَقَالَ: إِذًا فَرَأْسَيْ كَبْشٍ فَزَادَ كَلَامَهُ إِحَالَةً» وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لُفِظَ بِهِ مِمَّا هُوَ مُثَنًّى كَمَا لُفِظَ بِالْجَمْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤] وَيَقُولُونَ ضَعْ رِحَالَهُمَا وَإِنَّمَا هُمَا اثْنَانِ وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الْجَاحِظِ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَدَّهُ الْجَاحِظُ عَلَى الْقَائِلِ خَطَأً لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا يَقْصِدُ الْمَعَانِيَ الثَّانِيَةَ فَحُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْخَطَأِ لِجَهْلِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قَصْدِ لَطِيفَةٍ بِلَاغِيَّةٍ بِخِلَافِ مَا فِي الْبَيْتِ فَضْلًا عَنِ الْآيَةِ

كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ سَأَلَهُ حِينَ مَرَّتْ جِنَازَةٌ: مَنِ الْمُتَوَفِّي (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «اللَّهُ»

لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ الْمُتَوَفَّى وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَوَفَّى فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَهُوَ مُتَوَفٍّ أَيِ اسْتَوْفَى أَجَلَهُ، وَقَدْ قَرَأَ عَلِيٌّ نَفْسُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ.

وَبَعْدَ كَوْنِ الْخَتْمِ مَجَازًا فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْحَقِّ لِعُقُولِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَكَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا لَا مَحَالَةَ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ أُسْنِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُقَدِّرُ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ


(١) انْظُر: صحيفَة ٢٠١ من الْجُزْء الأول طبع بولاق.