للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٢٣)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٢] فَلَهَا حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، لِبَيَانِ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَكْرُ أَكَابِرِ قريتهم بالرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَصَرْفُهُمُ الْحِيَلَ لِصَدِّ الدَّهْمَاءَ عَنْ مُتَابَعَةِ دَعْوَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وكَذلِكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ بِتَأْوِيلِ كَذلِكَ الْمَذْكُورِ.

وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ هَذَا الْجَعْلِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَضَتْ أَكَابِرَ يَصُدُّونَ عَنِ الْخَيْرِ، فَشَبَّهَ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَهِلِ مَكَّةَ فِي الشِّرْكِ بِأَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ فِي أَهْلِ الْقُرَى فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، أَيْ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا خَاصٍّ بِأَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ الْمُجْرِمِينَ مَعَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.

فَالْجَعْلُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَوَضْعِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ سُنَنُ خَلْقِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الشَّرِّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْقُرَى.

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَدَاوَةِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، لِأَنَّهُمْ لِبَسَاطَةِ طِبَاعِهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْخَيْرَ تَقَبَّلُوهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُرَى، فَإِنَّهُمْ لِتَشَبُّثِهِمْ بِعَوَائِدِهِمْ وَمَا أَلِفُوهُ، يَنْفِرُونَ مِنْ كُلِّ مَا يُغَيِّرُهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: ١٠١] فَجَعَلَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْرَابِ نِفَاقًا مُجَرَّدًا، وَالنِّفَاقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا مَارِدًا.

وَقَدْ يَكُونُ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَهُوَ تَصْيِيرُ خَلْقٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ تَصْيِيرُ مَخْلُوقٍ إِلَى صِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّ تَصَارُعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ بِمِقْدَارِ غَلَبَةِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى أَهْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْخَيْرِ انْقَبَضَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا انْعَكَسَ الْأَمْرُ انْبَسَطَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَكَثَرُوا.