دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: «صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي» ، بِأَمَارَةٍ أَنِّي أَخْرِقُ الْعَادَةَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُعْطَى بِسُؤَالِ سَائِلِهَا، مَعَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل لَهَا، فَمَا صدق حَيْثُ الشَّخْصُ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ.
وحَيْثُ هُنَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْمَكَانِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَةِ، بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الرِّسَالَةِ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِمَكَانِ أَمَانَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْمَكَانِ تَخْيِيلٌ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى مُصَرِّحَةٌ بِتَشْبِيهِ الرُّسُلِ بِمَكَانِ إِقَامَةِ الرِّسَالَةِ. وَلَيْسَتْ حَيْثُ هُنَا ظَرْفًا بَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ حَيْثُ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ، فَهِيَ هُنَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، لِأَنَّ أَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا يَنْصِبُ الْمَفْعُولَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١١٧] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَة يَجْعَلُ رِسالَتَهُ صِفَةٌ لِ حَيْثُ إِذَا كَانَتْ حَيْثُ مُجَرَّدَةً عَنِ الظَّرْفِيَّةِ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَابِطُ جُمْلَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: حَيْثُ يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَاتِهِ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يُنَالُ بِالْأَمَانِي وَلَا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَمَنْ لَا يَصْلُحُ، وَلَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَأَرَادَ إِرْسَالَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ
مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَالطَّاقَةِ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِحَمْلِهِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا نَفْسٌ خُلِقَتْ قَرِيبَةً مِنَ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ، بَعِيدَةً عَنْ رَذَائِلِ الْحَيَوَانِيَّةِ، سَلِيمَةً مِنَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute