فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ فَرِيقًا أَوْلِيَاءً
لِلظَّالِمِينَ فَقَدْ جعلهم ظالمين بالأخرة، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: ١١٣] وَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٥١] .
وَيُقَالُ: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَالِيًا، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى أَيْضًا، يُقَالُ:
وَلَّى عُمَرُ أَبَا عُبَيْدَةَ الشَّامَ، كَمَا يُقَالُ: أَوْلَاهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: وَلِيَ أَبُو عُبَيْدَةَ الشَّامَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ وُلَاةً عَلَى بَعْضٍ، أَيْ نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ الْجِنَّ وَهُمْ ظَالِمُونَ مُسَلَّطِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ ظَالِمُونَ، فَكُلٌّ يَظْلِمُ بِمِقْدَارِ سُلْطَانه. وَالْمرَاد: بالظالمين فِي الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ.
وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كُلَّ ظَالِمٍ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَى الظَّالِمِ مَنْ يَظْلِمُهُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهَا عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَيَّامَ دَعْوَتِهِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَان قتل عمرا بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَمْرٌو عَلَيْهِ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ:
«أَلَا إِنَّ ابْنَ الزَّرْقَاءِ- يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِأَنَّ مَرْوَانَ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْأَزْرَقِ وَبِالزَّرْقَاءِ لِأَنَّهُ أَزْرَقُ الْعَيْنَيْنِ- قَدْ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ (١) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: إِنْ لَمْ يُقْلِعِ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ سُلِّطَ عَلَيْهِ ظَالِمٌ آخَرُ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنْ أَرَادَ الرَّعِيَّةُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ. وَقَدْ قِيلَ:
وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ.
(١) كلمة ينبّز بهَا عَمْرو بن سعيد لاعوجاج فِي شدقه فلقّبوه الْأَشْدَق، وَقَالُوا: لطمه الشّيطان.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute