وَ (ذُو الرَّحْمَةِ) خَبَرٌ ثَانٍ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفِ الرَّحِيمِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ:
ذُو الرَّحْمَةِ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ لَا يَنْتَفِعُ الْخَلَائِقُ إِلَّا بِلَوَازِمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهِيَ جُودُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ غِنَاهُ، بِخِلَافِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَهَا يَنْفَعُ الْخَلَائِقَ، فَأُوثِرَتْ بِكَلِمَةِ ذُو لِأَنَّ ذُو كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَاهَا صَاحِبُ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقُوَّةِ أَوْ وَفْرَةِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ ذُو إِنْصَافٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُقَالُ ذُو مَالٍ لِمَنْ عِنْدَهُ مَالٌ قَلِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِذِي الرَّحْمَةِ، هُنَا تَمْهِيدٌ لِمَعْنَى الْإِمْهَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، أَيْ فَلَا يقولنّ أحد لماذَا لَمْ يُذْهِبْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ أَمْهَلَهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الْإِنْذَارَ بِعَذَابِ الْإِهْلَاكِ، فَيَقُولُونَ:
مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨] وَذَلِكَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤] .
فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِمَنْ يَغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ من الْمُشْركين، وَيجوز أَن يكون إقبالا على خطاب الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا صَرِيحًا.
وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُعَجِّلْ بِإِفْنَائِكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ من بعدكم مِنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ فَمَا إِمْهَالُهُ إِيَّاكُمْ إِلَّا لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute