للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَنَذْكُرُهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتَكَرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَأْدَ طَريقَة سنّها أئمّة الشِّرْكِ لِقَوْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِمْ، فَهِيَ ضَلَالَةٌ ابْتَدَعُوهَا لِقَوْمِهِمْ بِعِلَّةِ التَّخَلُّصِ مِنْ عَوَائِقِ غَزْوِهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمِنْ مَعَرَّةِ الْفَاقَةِ وَالسِّبَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى إِنْجَازِ أَمْرِ الْمَوْءُودَةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ بَعْضِهِمْ تَثَاقُلًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّافُ» إِذْ قَالَ: «وَالْمعْنَى أنّ شركاؤهم مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ بالوأد أَو بالنّحر» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّرَكَاءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُمُ الَّذِينَ يَتَنَاوَلُونَ وَأْدَ بَنَاتِ الْغَيْرِ فَهُمُ الْقَاتِلُونَ.

وَفِي قِصَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ نَذَرَ إِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ عَشَرَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ عَدُوِّهِ، لِيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ بَنُوهُ عَشَرَةً بِهَذَا الْمَبْلَغِ دَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ فَأَطَاعُوهُ وَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ (هُبَلَ) الصَّنَمِ وَكَانَ (هُبَلُ) فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ لِيَذْبَحَهُ بَين (إساف) و (نائلة) فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَا تَذْبَحُهُ حَتَّى تُعْذَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِدَاءٌ فَدَيْنَاهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِاسْتِفْتَاءِ عَرَّافَةٍ بِخَيْبَرَ فَرَكِبُوا إِلَيْهَا فَسَأَلُوهَا وَقَصُّوا عَلَيْهَا الْخَبَرَ فَقَالَتْ: قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَزِيدُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ وَيَخْرُجُ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً فَضَرَبَ عَلَيْهَا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا. وَلَعَلَّ سَدَنَةَ الْأَصْنَامِ كَانُوا يَخْلِطُونَ أَمْرَ الْمَوْءُودَةِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى أَصْنَامِ بَعْضِ الْقَبَائِلِ (كَمَا كَانَتْ سُنَّةً مَوْرُوثَةً فِي الْكَنْعَانِيِّينَ مِنْ نَبَطِ الشَّامِ يُقَرِّبُونَ صِبْيَانَهُمْ إِلَى الصَّنَمِ مَلُوكَ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ الْقَتْلِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا.