للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] . وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَإِصْلَاحٍ، أَيْ: لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَاف:

٣١] . وَالْإِسْرَافُ إِذَا اعْتَادَهُ الْمَرْءُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبَاتِ، فَيَرْتَكِبُ لِذَلِكَ مَذَمَّاتٍ كَثِيرَةً، وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَلَذَّةٍ إِلَى مَلَذَّةٍ فَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ.

وَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى وَآتُوا حَقَّهُ أَيْ وَلَا تُسْرِفُوا فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ إِتْيَانِ حَقِّهِ فَتُنْفِقُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْإِنْفَاقِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا بَذْلُهُ فِي الْخَيْرِ وَنَفْعِ النَّاسِ فَلَيْسَ مِنَ السَّرَفِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ خَطَأِ التَّفْسِيرِ: تَفْسِيرُهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الصَّدَقَةِ، وَبِمَا ذَكَرُوهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ صَرَّمَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ وَفَرَّقَ ثَمَرَهَا كُلَّهُ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَاف.

وأكّد بإن لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسْرَافَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَلْزَمُ الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَنَفْيُ الْمَحَبَّةِ مُخْتَلِفُ الْمَرَاتِبِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ نَفْيَ الْمَحَبَّةِ يَشْتَدُّ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْإِسْرَافِ، وَهَذَا حُكْمٌ مُجْمَلٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَبَيَانُ هَذَا الْإِجْمَالِ هُوَ فِي مَطَاوِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَالْإِجْمَالُ مَقْصُودٌ.

وَلِغُمُوضِ تَأْوِيلِ هَذَا النَّهْيِ وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ تَفَرَّقَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِيُعِينُوهُ فِي إِسْرَافٍ حَرَامٍ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُنْجَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.