للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٤٨)

اسْتِئْنَافٌ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنِ اعْتَرَضَ بَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[الْأَنْعَام: ١٤٥] ، فَلَمَّا قَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي شَأْنِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ، وَقِسْمَةِ مَا قَسَّمُوهُ، اسْتَقْصَى مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَهِيَ حُجَّةُ الْمَحْجُوجِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي أَعْيَتْهُ الْمُجَادَلَةُ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ، إِذْ يَتَشَبَّثُ بِالْمَعَاذِيرِ الْوَاهِيَةِ لِتَرْوِيجِ ضَلَالِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ وَقُدِّرَ.

فَإِنْ كَانَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [الْأَنْعَام: ١٤٧] عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ أَقْوَالِهِمْ، فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٣٥] : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، كَانَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ اطِّلَاعًا عَلَى مَا تُكِنُّهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ تَزْوِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤] . وَإِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَة النّحل فالإخبار بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَعْذِرَتَهُمُ الْمَأْلُوفَةَ.

وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ: أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى لَصَرَفَهُمْ عَنْهُ وَلَمَّا يَسَّرَهُ لَهُمْ، يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إفحام الرّسول عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام وَإِبْطَالِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْعُقُولِ الْأَفِنَةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَحِفْظِ قَوَانِينِ الْوُجُود، وَهُوَ التصرّف الَّذِي نُسَمِّيهِ نَحْنُ بِالْمَشِيئَةِ وَبِالْإِرَادَةِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ بِالرِّضَى وَبِالْمَحَبَّةِ، فَالْأَوَّلُ تَصَرُّفُ التَّكْوِينِ وَالثَّانِي تَصَرُّفُ التَّكْلِيفِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ وَضْعِ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمِنَ التَّحْرِيمِ