للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْبَيِّنَةُ مَا بِهِ الْبَيَانُ وَظُهُورُ الْحَقِّ. فَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِعْجَازِهِ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ، وَهُوَ هَدْيٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِرْشَاد إِلَى طرق الْخَيْرِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ لَا حَرَجَ فِيهَا، فَهِيَ مُقِيمَةٌ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ مَعَ التَّيْسِيرِ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ التَّشْرِيعِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ.

وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذَا الْإِعْذَارِ لَهُمُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَعْرَضُوا. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ لِلتَّفْرِيعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ.

وَ (مِنْ) فِي مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ مَوْصُولَةٌ وَمَا صِدْقُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ.

وَالظُّلْمُ هُنَا يَشْمَلُ ظُلْمَ نُفُوسِهِمْ، إِذْ زَجُّوا بِهَا إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَخُسْرَانِ الدُّنْيَا، وظلم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ، وَمَا هُوَ بِأَهْلِ التَّكْذِيبِ، وَظُلْمَ اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَأَنْكَرُوا نِعْمَتَهُ، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

وَقَدْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَوَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ تِلْكَ الصِّلَةِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ.

وَمَعْنَى صَدَفَ أَعْرَضَ هُوَ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى صَرَفَ غَيْرَهُ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» . وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِ عَنْ يُقَالُ: صَدَفْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ:

صَرَفْتُهُ، وَقَدْ شَاعَ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ حَتَّى غَلَبَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمَفْعُولِ بِهِ، يُقَالُ: صَدَفَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى أَعَرَضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦] ، وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا مُتَعَدِّيًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِكَوْنِهِمِ أَظْلَمَ النَّاسِ تَكْثِيرًا فِي وُجُوهِ اعْتِدَائِهِمْ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ نَظَرًا