للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَمُنَاوَأَةِ هَذَا الدِّينِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ تَهَيَّأَتِ النُّفُوسُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ وَأَفَاضَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ النَّيِّرَاتِ فَكَانَتْ فِي تَلَقِّي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا زِينَةً لِمَعَاشِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمَعَادِهَا، فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ تَنْبَعِثُ عَنْهُمَا الْخَيْرَاتُ، وَهُمَا الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ حَدًّا لَا يَقْبَلُ تَفَاوُتًا

وَلَا تَشَكُّكًا، لِأَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ أَن لَا تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: ٣٢] ، وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ مَفْهُومَ الْإِيمَانِ هُوَ مَفْهُومُ الْإِسْلَامِ، فَيُكَابِرُ لُغَةً تُتْلَى عَلَيْهِ، كَيْفَ وَقَدْ فَسَّرَهُ الرَّسُولُ لِذَلِكَ الْجَالِسِ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ. فَمَا الَّذِينَ ادَّعَوْهُ إِلَّا قَوْمٌ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَارَةُ فَأَرَادُوا أَنَّ الِاعْتِدَادَ فِي هَذَا الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأَمْرَيْنِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ وَجْهُ الِاكْتِفَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَادِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، فِي مَقَامِ خِطَابِ الَّذِينَ تَحَلَّوْا بِكِلْتَا الْخَصْلَتَيْنِ، فَانْتَظَمَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي.

إِنَّ مُوجِبَ اضْطِرَابِ الْأَقْوَالِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ دَعَتْ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَدَعَتْ إِلَى النُّطْقِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ النُّطْقِ وَلَمْ يَقْتَنِعِ الرَّسُولُ مِنْ أَحَدٍ بِمَا يُحَصِّلُ الظَّنُّ بِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَّا بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ بِنُطْقِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ لَمْ تَكُنْ ظَوَاهِرُهُمْ مُخَالِفَةً لِعَقَائِدِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ يُبْطِنُ الْكُفْرَ فَكَانَ حُصُولُ مَعْنَى الْإِيمَانِ لَهُمْ مُقَارِنًا لِحُصُولِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ، ثُمَّ لَمَّا نَبَعَ النِّفَاقُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ طَرَأَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَبَيْنَ حَالِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ تَفْرِقَةً بِالتَّحْذِيرِ وَالتَّنْبِيهِ لَا بِالتَّعْيِينِ وَتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ، لِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ النَّبِيءِ تَجْرِي فِي الْغَالِبِ عَلَى مُرَاعَاةِ غَالِبِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَرُبَّمَا جَرَتْ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:

١٤] وَكَمَا

فِي قَوْلِ النَّبِيءِ لِمَنْ قَالَ لَهُ: مَالك عَن فلَان فو الله إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا» .