ثُمَّ إِنَّ أَعْمَالَ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ وَفِيرَةٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ أَوْ مَدَّتَهُ هِيَ الْحَالَةُ أَوِ المدّة الَّتِي تنْقَلب فِيهَا أَحْوَالُ الْجِسْمِ إِلَى صِفَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَتِلْكَ حَالَةُ الِاحْتِضَارِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ قَدْ تُؤَثِّرُ انْقِلَابًا فِي الْفِكْرِ أَوِ اسْتِعْجَالًا بِمَا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْجَلُ بِهِ الْحَيُّ، فَرُبَّمَا صَدَرَتْ عَنْ صَاحِبِهَا أَعْمَالٌ لَمْ يَكُنْ يُصْدِرُهَا فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ، اتِّقَاءً أَوْ حَيَاءً أَوْ جَلْبًا لِنَفْعٍ، فَيُرَى أَنَّهُ قَدْ يَئِسَ مِمَّا كَانَ يُرَاعِيهِ، فَيَفْعَلُ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ، وَأَيْضًا لتِلْك الْحَالة شؤون خَاصَّةٌ تَقَعُ عِنْدَهَا فِي الْعَادَةِ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَحْوَالِ آخِرِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّهَا تُضَافُ إِلَى الْمَوْتِ لِوُقُوعِهَا بِقُرْبِهِ، وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا مِنْهُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ حَتَّى زَمَنِ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَمَاتِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ تَوَجُّهَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ نَحْوَ أُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالظُّهُورِ لِخَاصَّةِ أُمَّتِهِ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ لِلرَّسُولِ بَعْدَ مَمَاتِهِ أَحْكَامَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِلَةِ كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلَامَ»
وَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُ فِي الْحَشْرِ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ وَالسُّجُودِ لِلَّهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَتِلْكَ أَعْمَالٌ خَاصَّة بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لِنَفْعِ عَبِيدِهِ أَوْ لِنَفْعِ أَتْبَاعِ دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَماتِي هُنَا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ»
. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَمَاتِهِ لِلَّهِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّتْهُ الْيَهُودِيَّةُ بِخَيْبَرَ فِي لَحْمِ شَاةٍ أَطْعَمُوهُ إِيَّاهُ حَصَلَ بَعْضٌ مِنْهُ فِي أمعائه.
فَفِي الْحَدِيثِ (١)
(١) رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «كتاب الطِّبّ النَّبَوِيّ» بِسَنَد حسن.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute