أُسْتُثْنِيَ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ عَيْنُ مَدْلُولِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَتِ الْحَالُ تَأْكِيدًا. وَفِي اخْتِيَارِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْيِ سُجُودِهِ بِجَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ السَّاجِدِينَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ السُّجُودُ انْتِفَاءً شَدِيدًا لِأَنَّ قَوْلَكَ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ مِنَ النَّفْيِ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُهُ قَوْلُكُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦] .
فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَان عِنْد مَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ، أَيِ انْتَفَى سُجُوده انْتِفَاء لَا رَجَاء فِي حُصُولِهِ بَعْدُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِحِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ابْتِدَاءُ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ إِبْلِيسَ السُّجُودَ لِآدَمَ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَكَانَ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ اسْتِفْسَارٌ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ السُّجُودَ، وَضَمِيرُ: قالَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا، نُكْتَتُهُ تَحْوِيلُ مَقَامِ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَمْرٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي زُمْرَتِهِمْ فَصَارَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ لِإِبْلِيسَ خَاصَّةً.
وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ظَاهِرُهُ حَقِيقِيٌّ، وَمَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارُ مَقْصِدِ إِبْلِيسَ لِلْمَلَائِكَةِ.
ومَنَعَكَ مَعْنَاهُ صَدَّكَ وَكَفَّكَ عَنِ السُّجُودِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute