للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالنَّارُ هِيَ الْحَرَارَةُ الْبَالِغَةُ لِشِدَّتِهَا الِالْتِهَابَ الْكَائِنَةُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَصْهُورَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالنَّارِ الَّتِي فِي الشَّمْسِ، وَإِذَا بلغت الْحَرَارَة الالتهام عَرَضَتِ النَّارِيَّةُ لِلْجِسْمِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ تُرَابٍ مِثْلُ النَّارِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّمَادِ.

وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا وَتَسَلُّطِهَا عَلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تُلَاقِيهَا، وَلِأَنَّهَا تُضِيءُ، وَلِأَنَّهَا زَكِيَّةٌ لَا تَلْصَقُ بِهَا الْأَقْذَارُ، وَالتُّرَابُ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا تَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْأَجْسَامُ الْحَيَّةُ كُلُّهَا.

وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَهُوَ أَخْلَصُ مِنَ الشُّعَاعِ الَّذِي يُبَيِّنُ مِنَ النَّارِ مُجَرَّدًا عَنْ مَا فِي النَّارِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْجُثْمَانِيَّةِ.

وَالطِّينُ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطُ بِالْمَاءِ، وَالْمَاءُ عُنْصُرٌ آخَرُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مَعَ النَّارِ وَالتُّرَابِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا أَنَّ شَرَفَ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ مُقَرَّرٌ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أُوخِذَ بِعِصْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ عِصْيَانًا بَاتًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَدْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَ آدَمَ ذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي قَدْ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى مَبْلَغِ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّكَاءِ وَالتَّقْدِيسِ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَغَرَّهُ زَكَاءُ عُنْصُرِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ كَافِيًا فِي التَّفْضِيلِ وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ كِيَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعُنْصُرِ مُهَيِّئًا إِيَّاهُ لِبُلُوغِ الْكَمَالَاتِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ، وَاعْتِبَارِ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ، بِحَسَبِ مَقْصِدِ الْخَالِقِ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْمَادَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ إِبْلِيسَ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْفَسَادِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ دُونَ نَظَرٍ، بِحَسَبَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَرَكَّبَ آدَمَ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ العنصريّة فِي الْخَبَر وَالصَّلَاحِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَى ازْدِيَادِ الْكَمَالِ بِمَحْضِ الِاخْتِيَارِ وَالنَّظَرِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ خَصَائِصُ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ لِلتَّرْكِيبِ، وَرَكَّبَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عُنْصُرِ النُّورِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ قُوَاهُمُ الْعُنْصُرِيَّةَ فِي الْخَيْرَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالِانْدِفَاعِ